كيف ترى نفسيتك اليوم؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

أصبحنا جميعا مدمنين لأخبار القنوات الفضائية حتى النخاع، ومنا من رتبها في مجموعة بلغت أكثر من عشرين قناة متتابعة ومتوالية، تبث الأخبار ليل نهار كل وفق مذهبها وموقفها وهدفها، حتى أصبحنا لا نعرف الحقيقة التي نحقن بها يوميا دون توقف. بمعنى آخر، ضعنا في معرفة الحقيقة.

المشكلة ليست هنا، ولكن في النفس البشرية التي لا تتحمل هذا الكم الهائل من المآسي و الآلام. ويبدو أن كل ما يصل إلينا من خلال الحواس الخمس، منذ ولادتنا إلى آخر العمر، يخزن في شريحة الذاكرة التي يبدو أنها تستوعب رقما فلكيا من التترابايتات اللانهائية.

ومع أن هذه واحدة من نعم الله على الإنسان، إلا أننا نسيء استخدامها فنقسر أنفسنا على ملء هذه الشريحة الربانية بملايين الأخبار السوداء أو الحمراء. ولا أعرف إن كانت هناك وسيلة مخبرية قادرة على أن تحصي نسبة الأخبار السيئة التي يخزنها الإنسان العربي في ذاكرته منذ يوم ولادته!

هل كان الإنسان العربي في الماضي أفضل من حالنا اليوم وأقل هما وغما ويأسا وقهرا؟ بالتأكيد؛ نعم.

في السابق قبل اختراع التلفزيون والانترنت والهواتف المتحركة، كان الإنسان العربي يقتات بعض الأخبار من خلال متابعته لبعض الإذاعات المسموعة، التي تتأثر تردداتها بالأحوال الجوية. وقتها كانت أخبار الكوارث تصل متأخرة كثيرا عن وقت حدوثها، وبالتالي كان أثرها ضعيفا.

وبالإضافة إلى ذلك، كانت أخبار الانقلابات، على سبيل المثال، ليست بهذا الحجم الكارثي الذي نشاهده ونعايشه اليوم وعلى الهواء مباشرة. وقتها كان الإنسان العربي يكتفي بقول "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ومن ثم يخلد للنوم حتى أذان الفجر.

بمعنى آخر، كانت جرعة الأخبار السيئة التي يتناولونها ضعيفة، ولا تؤدي إلى الإدمان كما هو حالنا، لخلوها من لون الدم والأعضاء المتناثرة، حيث لا يمكنه من خلال المذياع مشاهدة لون الدم ولا شكل الجثث النتنة، هذا إن كان يملك مذياعا في الأصل.

وإن وجد نجد مجموعة يتجمعون حول مذياع واحد فقط، ما يجعل أثر الأخبار السيئة مقسما على المجموعة. ثم إنه في زمنهم لا توجد صحف متنوعة كما هو اليوم، حيث تصلنا 3 صحف يوميا إلى باب غرفة النوم.

وفي الماضي لا توجد طبعات تكفي عدد سكان الوطن العربي كله، ناهيك عن أن 90% منهم كانوا أميين، وكانت الصحف تتداول بين الأهالي وعندما يصل دور أحدهم يكون الخبر قد أصبح منتهي الصلاحية.

وإن سقطت صحيفة سهوا بين يديه لا يجد سوى الخبر، ونادرا ما يجد معه صورة توضيحية، وإن وجدت فهي باللونين الأسود والأبيض.. بالتالي، يظل ذهنه صافيا من الأخبار المؤثرة.نحن اليوم في زمن انقلب فيه السحر على الساحر. اكتشفنا كل وسائل الاتصال المتقدمة، ولم نعد مجبرين على الجلوس أمام التلفاز لمتابعة آخر الأخبار السيئة.

فهاتفنا النقال ينقلها إلينا مباشرة، ويسمم بددنا بها حيثما كنا، حتى وإن كنا نتناول فنجان قهوتنا على متن الطائرة التي تقلنا إلى فينيسيا وروما وباريس ولندن وبرشلونة، حتى وهي على ارتفاعات شاهقة، حيث البرودة تصل إلى 50 درجة تحت الصفر. وتظل الأخبار السيئة تطاردنا في الجو حتى نصل، ومن ثم في سيارة الأجرة وفي الباص والقطار، وفي الفنادق والمطاعم وفي كل مكان.

وبعد فترة وجيزة من الزمن تمتلئ معدتنا بسموم الأخبار الضارة، وذاكرتنا بالصور السلبية، ونفسيتنا تتحول إلى ما يشبه كتلة من القطران الذي تصعب إزالته.

وهكذا تحولنا إلى شبه بشر لا يعيشون إلا على مخدرات الأخبار الضارة منذ الصباح حتى النوم، وتشتكي مخداتنا يوميا من زخم الكوابيس المخيفة. هل سأل أحدكم نفسه ماذا كان يحلم البارحة؟ ما هي نفسيته اليوم؟ هل رأى ثورا هائجا يطارده؟ أم سيافا يحاول قتله لأنه يشارك في مظاهرات سلمية؟ أم قنبلة موقوته تنفجر تحت قدميه ومن يشاهد ساقيه في مكان بعيد عن جسده؟ أم موجة تسونامي غافلته من خلفه وهو في مركبته على أحد جسور المدينة الغارقة ولا يدري أين المفر؟

إن من يدعي عكس ذلك، فهو إما غافل عما يحدث حوله في العالم أو يحاول الهروب من الواقع المخيف، أو أنه من هؤلاء الذين ينسون سريعا أحلام البارحة... فمن أيهم أنت؟

Email