لماذا يستبد الغضب بأميركا؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لماذا تعد أميركا اليوم أكثر انقساما مما كانت عليه طوال الثمانين عاما الماضية؟ لماذا نجد فيها غضبا واستقطابا سياسيا الآن يفوقان ما كان موجودا حتى أثناء حملات المطاردة المناهضة للشيوعية، التي قام بها جو مكارثي في خمسينات القرن العشرين وخلال النضال العاصف من أجل الحقوق المدنية في الستينات وحرب فيتنام وفضيحة ووترغيت؟

ربما نعتقد أن المرحلة الراهنة ستكون مرحلة هدوء نسبي، فالاتحاد السوفييتي قد اختفى والحرب الباردة انتهت، والنظام من أجل الحقوق المدنية يستمر، ولكن هناك في أميركا على الأقل طبقة متوسطة سوداء، وهناك أيضا رئيس أسود.

وبينما كانت الحربان في العراق وأفغانستان مثيرتين للجدل، فإن الجيش الأميركي المؤلف بكامله من المتطوعين، يعني أن الشبان الأميركيين لا يقتادون إلى الحرب رغما عنهم. ومع أن السياسيين يواصلون الوقوع في هوة الفضائح، فإن هذه التجاوزات لا تهدد تكامل حكومتنا على نحو ما حدث خلال فضيحة ووترغيت.

ورغم ذلك، فإن الأميركيين الآن أكثر غضبا بأي معيار من المعايير، وأكثر ازدراء لجميع المؤسسات الكبرى تقريبا، بما في ذلك الإدارة الأميركية والشركات وأجهزة الإعلام، وهم أكثر اقتناعا بأن أميركا تسير في الطريق الخاطئ.

يقول علماء السياسة إن الهوة بين الناخب الجمهوري المتوسط ونظيره الديمقراطي، حول مجموعة كبيرة من القضايا، تعد اليوم أوسع مما كانت عليه منذ عشرينيات القرن الماضي. ولا شك في أن الوسائط الاجتماعية تلعب دورا في ذلك، حيث تسمح للناس بأن يطلعوا الرأي العام على آرائهم دون أن يتحملوا مسؤولية تذكر عما يقولونه. ومعظمنا يمكنه أن يندرج داخل جماعات افتراضية أو واقعية، يؤكد كل أعضائها افتراضاتنا وتحيزاتنا.

وفي غضون ذلك، تتنافس شبكات التلفزيون ومحطات الإذاعة لاستقطاب المشاهدين والمستمعين من خلال كونها أكثر حدة. ومنذ وقت غير بعيد، ناقشت مستشارا اقتصاديا جمهوريا في برنامج تلفزيوني، وخلال استراحة قصيرة قالت لي مقدمة البرنامج: "كن أكثر غضبا"، فقلت لها إنني لا أريد أن أكون أكثر غضبا. فقالت: "يتعين عليك أن تكون كذلك، فالمشاهدون ينتقلون بين المئات من القنوات، وسوف يتوقفون عند أي مباراة مصارعة"!

وفي خضم هذا الضجيج، فقدنا المحكمين الذين يتفقون عند الحقائق، والذين يمكنهم أن يفسروا لنا ما يجري بطرق يجدها معظم الأميركيين مقنعة. وفقدنا كذلك معظم الذاكرة الحية المتعلقة بعهد كنا فيه جميعا معا (الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية)، عندما كنا ننجح سويا أو نفشل معا. في تلك السنين كنا نعتمد على بعضنا، وكنا ندرك إلى أي حد نحن مدينون لبعضنا بعضا، باعتبارنا أعضاء في المجتمع نفسه.

ولكنني أعتقد أن التفسير الأكثر عمقا لما وقع، له جذور اقتصادية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وامتدادا حتى أواخر السبعينات، تضاعف حجم الاقتصاد، وتضاعف دخل الجميع تقريبا، ونما كل الأميركيين معا.

وفي الحقيقة، فإن أولئك الموجودين في الخُمس الأسفل من سلم الدخل، رأوا دخلهم يزيد بمعدل يفوق الضعف، وعايش الأميركيون مرونة رأسية على نطاق بالغ الاتساع. ومع ذلك، ففي العقود الثلاثة والنصف الماضية، مضت الطبقة المتوسطة تفقد أرضا، كما أن متوسط أجر العمال الرجال اليوم أقل مما كان عليه في 1980، مع أخذ التضخم في الاعتبار.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن كل الآليات التي استخدمناها عبر العقود الثلاثة الماضية للوصول بتأثيرات هذا الهبوط إلى الحد الأدنى، كتدفق الأمهات الشابات نحو العمل، وقيام الجميع بالعمل ساعات أطول، والاقتراض مقابل قيم متزايدة لمنازلهم)، قد استنفدت الآن.

والأجور لا تزال تنخفض، حيث إن متوسط الأجر الآن أكثر تدنيا بنسبة 4% مما كانت عليه عند بداية ما يسمى بالانتعاش. وفي غضون ذلك، فإن الدخل والثروة والسلطة، كل ذلك أصبح أكثر تركزا عند القمة مما كان عليه في غضون 90 عاما.

نتيجة لذلك أصبح الكثيرون يعتقدون أن الظروف تضغط عليهم، والأمر الأكثر أهمية هو أن حزب الشاي وحركات الاحتلال قد بدأت مع عمليات انتشال وول ستريت، عندما خلصت المجموعتان كلتاهما إلى أن الحكومة الكبيرة والتمويل الكبير قد تآمرا على بقية الأميركيين، وألقى حزب الشاي باللائمة على الحكومة، بينما ألقت الحركات الأخيرة باللائمة على وول ستريت. وقد اكتشف علماء السياسة كذلك، معامل ارتباط كبيرا بين الظلم والانقسام السياسي.

وكانت آخر مرة قسمت فيها أميركا بشكل مرير في عشرينات القرن الماضي، وكانت تلك آخر فترة تركز فيها الدخل والثروة والسلطة على هذا النحو. عندما يشعر الناس المتوسطون بأن اللعبة مزيفة فإنهم يغضبون، وهذا الغضب يمكنه أن يشق طريقه بسهولة إلى أشكال من الرفض العارم للحكومات، لدى الفقراء والسود والمهاجرين والنقابات، الذين نالوا تعليما جيدا.

وهذا أمر ينبغي ألا يثير دهشتنا، لأن الديماغوجيين على امتداد التاريخ قد استخدموا الغضب لاستهداف من يتم تحويلهم إلى كبش فداء، وهكذا فإنهم يقسمون الناس ويلهونهم عن المصادر الحقيقية لإحباطاتهم.. وعلينا ألا نخطئ، فالظلم الوحشي الذي تعايشه أميركا اليوم بالغ الخطورة.

Email