مصر وأميركا.. خصام أم انفصام؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

حدث في مايو 1974، خلال زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لمصر بعد قطيعة تجاوزت عشرين عاما، أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات نظم حفل عشاء فاخرا على شرف الرئيس الأميركي، وجاءت جلسة الدكتور علي السمان رئيس وكالة أنباء الشرق الأوسط حينذاك، بجوار ضابط كبير في المخابرات المركزية، ودار حوار دافئ في جو مفعم بالبهجة والتفاؤل، فإذا بالضابط الأميركي يقول لعلي السمان: أخيرا عدنا إلى القاهرة ولن نفقدها أبدا!

وبالفعل لم تحاول الولايات المتحدة أن تخسر مصر من ساعتها، مهما دخلت العلاقات بينهما إلى مطبات وتناقضات تتصاعد حدتها أو تخفت، وقد ظل الطرفان حريصين على "شعرة معاوية" بينهما "في أشد الأوقات حرجا" كما يقول العرب في أمثالهم..

لكن يبدو أن شعرة معاوية مهددة لأول مرة بالقطع في الأزمة الحالية، بل إن الولايات المتحدة تمضي دون أن تقصد، إلى الطريق الذي مضى فيه جون فوستر دالاس وزير خارجيتها في خمسينيات القرن العشرين، والذي نتج عن سياساته أن غيرت مصر عبد الناصر اتجاه بوصلتها من واشنطن غربا إلى موسكو شرقا، وصارت لاعبا أساسيا في الحرب الباردة بين الكتلتين، بما كان عبد الناصر يملكه من كاريزما وأحلام وطنية، إلى أن عدل أنور السادات بوصلة مصر إلى واشنطن مجددا.

لكن واشنطن في أزمة الدولة المصرية مع جماعة الإخوان، تكاد تدفع مصر للعودة إلى طريق عبد الناصر القديم، فتدير ظهرها للغرب المتربص بها!

وتكاد الأخطاء التي ما زالت ترتكبها واشنطن الآن، تتشابه مع الأخطاء التي اقترفها دالاس مع عبد الناصر، إلى حد التماثل. ونحن هنا لا نقصد أن نشبه الفريق عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع المصري بأنه عبد الناصر جديد، كما يحلو للمزاج الشعبي المصري أن يصفه، فهو وصف عاطفي انفعالي أكثر منه وصفاً علميا، رغم وجود صفات مشتركة بين الرجلين.

وقد وقعت إدارة الرئيس باراك أوباما في أخطاء كبرى، فلم تعترف بما جرى في مصر شعبيا في 30 يونيو، وهو يسبق انضمام القوات المسلحة إلى صدارة المشهد تحت هذا الضغط الشعبي، أو بمعنى أصح بتحريض منه، ثم عملت الإدارة الأميركية على منع مصر من فض اعتصامات رابعة العدوية والنهضة في توقيت مناسب، وفي ظروف أفضل وبخسائر أقل، حتى يتوسعا ويصبحا عنصرين ضاغطين مؤثرين في أي مفاوضات بين الدولة والجماعة، ولم تكن الولايات المتحدة تسعى إلى مصالحة وطنية كما تزعم، وإنما كانت تبحث عن عودة الجماعة إلى مكان بارز على مسرح الحياة المصرية.

 كانت الولايات المتحدة مرتبطة بفكرة اقترحها ضابط مخابرات إسرائيلي، لاقت قبولا واسعا في دوائر التفكير في "السي أي أيه"، وحولتها إلى سيناريو يجري تنفيذه فعلا على أرض الواقع. كانت الفكرة هي نقل صراع الإسلام السياسي ضد الغرب إلى العالم الإسلامي، وخاصة لمنطقة الشرق الأوسط، ضاربة عصفورين بحجر واحد..

الأول: رفع مخاطر التنظيمات الجهادية عن كاهل الغرب وإلقائها في الشرق، بصناعة صراع بين كل التيارات حول الشريعة وتطبيقها والديمقراطية ومدى توافقها مع الشريعة من عدمه، وشكل الحياة في تلك المجتمعات، ومجادلات فقهية أخرى اعتاد عليها المسلمون، مع دخول الشيعة في الصورة، فيتوسع النموذج العراقي في المنطقة ويسود.

ثانيا: ضمان أمن إسرائيل لفترة طويلة، إما بحل مقبول لها أو بالموت الإكلينيكي. فالحل قد يكمن في عبارة "الخلافة الإسلامية"، وفيها تنعدم الحدود وتتلاشي الخصوصيات، فهي أمة واحدة، ويمكن أن يجد الفلسطينيون حلا ناعما تدريجيا مع الجيران، يوصف لهم بأنه مؤقت كنقطة انطلاق على إسرائيل في المستقبل، حين يستطيع المسلمون أن يعدوا ما استطاعوا من قوة، أو بالتسويف الناجم عن الفرقة.

وقد جربت إسرائيل "حماس" وكانت النتيجة رائعة، حكومة في الضفة وحكومة في غزة، وخلافات وانقسامات وصراعات، وتوارت القضية الفلسطينية مليون ميل في نشرات الأخبار والمنظمات الدولية والرأي العام وعلى مائدة المفاوضات، وصارت مثل الإنفلونزا الموسمية نصاب بها أحيانا!

ووقع الاختيار على جماعة الإخوان لتلعب هذا الدور المهم.. وها هي عزلت من السلطة وتكاد تفقد مكانتها القديمة أيضا.

ولم تقبل الولايات المتحدة ما حدث، ومارست كل أنواع الضغوط على الدولة المصرية، عن طريق الأوروبيين، والإعلام الغربي (بنفس منهج أسلحة الدمار الشامل في العراق قبل الغزو)، ومنظمات دولية، ودول حليفة لها، وأخيرا بوقف تدريبات النجم الساطع المشتركة بين القوات المصرية والقوات الأميركية..

وقعت الولايات المتحدة في نفس خطأ الإخوان، وهو حذف ملايين المصريين من مشهد وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي وهو يعلن عزل الرئيس محمد مرسي، وتصورت أن الضغوط يمكن أن تعيد الجماعة دون مرسي، وهو نفس الخطأ الذي مارسه جون فوستر دالاس ضد عبد الناصر وتصور أنه يمكنه التخلص منه أو احتواءه، فتحول الخصام المؤقت إلى انفصال طويل برغبة الشعب المصري! ويبدو أن علاقة مصر والولايات المتحدة الآن في مفترق طرق بين هذا وذاك..

Email