مأساة الشعب السوري

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يبق للشعب السوري سوى مهمة واحدة وحيدة، هي دفع ثمن الحرب في بلاده من دمائه وماله وكرامته وتدمير مساكنه ومزارعه، وقطع سبل عيشه، وتركه تحت مطرقة النظام السياسي، والجماعات المسلحة، وعصابات الخطف والسرقة من جهة، والوعود الخلّبية والخيالية للمعارضة السورية الداخلية والخارجية وحلفائها ومموليها وأتباع مموليها من جهة ثانية.

وأكاذيب وخداع وأطماع القوى الكبرى الإقليمية والدولية، منفردة أو مجتمعة في منظمات من جهة ثالثة، وما زال الشعب السوري ينتظر حلاً ويتلقى "وعود عرقوب" من جميع الأطراف، ويدفع ويدفع دون أن يرى بصيص ضوء في آخر النفق سوى هذه الوعود، مع بعض الأكاذيب والتمنيات التي لم تسمن ولم تغن من جوع ولن تفعل أبداً.

وعجيب أمر السلطة السورية، فهي التي دمرت مساكن ومنشآت ومعامل الشعب السوري وبنيته التحتية، فكانت تقصف قرية أو بلدة قصفاً لا رحمة فيه للاشتباه بوجود مسلح في هذه البلدات، بحجة مقاومة الإرهاب، وكأن جميع سكانها رجالاً ونساءً وأطفالاً مسلحون! وهكذا تشرد حوالي سبعة أو ثمانية ملايين سوري من بيوتهم، منهم أكثر من مليونين ونصف لجؤوا إلى دول الجوار، ومئات الألوف توجهوا إلى أصقاع العالم المختلفة.

وهؤلاء يلاقون من مضيفيهم عجرفة واحتقاراً وتعذيباً، ويجعلونهم محطاً لابتزاز من كل الأنواع، ويصادرون مخصصاتهم التي تقدمها المنظمات الدولية، ولا يصلهم من الجمل "سوى أذنه"، و النظام السوري، الذي يعرف هذا كله، لم يخطر له ـ مجرد خاطر ـ أن يجد حلاً لمآسي شعبه، أو يشعر أن هذا شعبه من جهة، وأنه هو الذي سبب له هذه المآسي من جهة أخرى، وأنه مسؤول عنه قانونياً وأخلاقياً من جهة ثالثة.

ولم يخطر للسلطة أن ترسل وفداً من منظمات المجتمع المدني أو الهلال الأحمر السوري، أو حتى من الجمعيات الخيرية السورية، ليزور هؤلاء النازحين ويدرس أحوالهم ويطلع على ظروفهم، فهؤلاء النازحون هم شعبها، وليسوا من حملة السلاح أو المحاربين، ومعظمهم نساء وأطفال، وها هي تتفرج على مآسيهم دون أن تتصل بدول اللجوء وتنسق معها.

وفي الداخل أيضاً، تترك السلطة الحبل على الغارب في ما يتعلق بهؤلاء النازحين، يفترشون الحدائق والطرقات أحياناً، أو يعيشون أكداساً عند أقربائهم أو في غرف مستأجرة ما زال بعضها قيد البناء، دون أن تهتم هذه السلطة بإقامة مخيمات داخلية لهم، وتقديم المساعدات والخدمات، وإيجاد السبل الكافية لئلا يجوعوا وليتعلم أولادهم، .

وربما لا يكلف كل هذا جزءاً مما تكلفه الحرب والقنابل والأسلحة وتعطيل العجلة الاقتصادية، والأنكى أن بعض عناصر الأمن تبتز هؤلاء بمختلف طرق الابتزاز، ويستغلهم جميع من يتعامل معهم، من البقال إلى التاجر إلى مالك المسكن إلى سائق التاكسي، إلى كل من يتنفس الهواء.

ومن طرف آخر، عجيب أمر المعارضة السورية الداخلية والخارجية، التي امتهن معظم قادتها الثرثرة واللغو وإطلاق التهديد ضد النظام والوعود الكاذبة تجاه الشعب، ويتصرف الجميع متواطئين مع أنفسهم على أنفسهم، فهم يعلمون علم اليقين أن ليس لهم بأمر حل الأزمة حيلة، ومع ذلك يجتمعون وينتخبون، ويزورون دول العالم ويهددون ويتوعدون ويوعدون، وهم موقنون أن لا أهمية لمواقفهم.

ويعرفون الحقائق كلها، ولكن لم يخطر لأي منهم أن يكشف المستور ويقول الحقيقة، جهلاً أو تعصباً أو خوفاً من انقطاع الجعالة أو احتقاراً للشعب، أو دون أن يزور أحد منهم المناطق المحررة ويلتقي بالشعب والمقاتلين، ودون أن يفتح أي من منظمات المعارضة مكتباً في هذه المناطق من غرفة واحدة وموظف واحد، توضع عليه لافتة أكبر منه باسم منظمة المعارضة المعنية، وتركت المعارضة شعبها ليذهب إلى الجحيم.. ألا يكفيه سيل التصريحات العنترية التي تطلقها المعارضة؟

ولكن ليس عجيباً موقف الدول الكبرى، أعني الإدارة الأميركية وروسيا وبعض قادة الاتحاد الأوروبي، هؤلاء الذين يعرفون بدقة مأساة الشعب السوري ومصيبته وآلامه وحاضره المر ومستقبله الأكثر مرارة، والمخاطر المترتبة على الأزمة السورية، ويستمرون في الجدال حول "جنس الملائكة".

وكل منهم يبتغي تأمين مصالحه من خلال مساومته على حل الأزمة السورية، التي لا تأخذ من اجتماعاتهم سوى بضع دقائق، أمام القضايا الكبرى التي يهتمون بها ويناقشونها. فالروس يريدون مقايضة عدم وضع الصواريخ الأميركية في بولونيا، ورفض دخول جورجيا حلف شمال الأطلسي.

وضمان مصالحهم في سوريا والمنطقة. والأميركان يتمهلون ليتم التدمير الكلي لسوريا، أعني تدمير إدارة الدولة ومؤسساتها والقطاع العام والقواعد العسكرية والصواريخ وتخريب النسيج الاجتماعي السوري.

وبعدها فقط سوف يعملون للحل بعد أن توافق إسرائيل. والأوروبيون يعملون على إبعاد المتطرفين وعنفهم وتهديدهم للسلام الاجتماعي في بلادهم. وبعد أن تتحقق مصالح هذه الدول يمكن أن تُحل الأزمة السورية، فكل يغني على ليلاه، ولا أحد بغني على ليل الشعب السوري.

 

Email