جماعات الإسلام السياسي وبؤس الأيديولوجيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهدت البلدان العربية منذ عدوان يونيو 1967، خيبة أصابت التيار القومي العربي بالدرجة الأولى، واستدعت فراغاً أحدثه فشل هذا التيار، وهجوماً انصب عليه بافتراض أن سياسته كانت عاملاً رئيساً من عوامل الهزيمة. وقد تم إدخال هذه الفكرة في أذهان الجماهير العربية بهدف إعادة تشكيل وعيها، فأصبح هذا التيار في نظرها مسؤولاً عن المصائب كلها، ووجد تيار جماعات الإسلام السياسي أن فرصته لاحت ليحل محل التيارات القومية المهزومة.

ويتولى الحكم ويقفز على السلطة في عدة بلدان عربية وإسلامية. وقد ولغ هذا التيار كثيراً في تعصبه وتطرفه وسلوكه، فتبنى أيديولوجية المفكرين الإسلاميين المتطرفين، كالباكستاني أبي الأعلى المودودي، والمصري سيد قطب وغيرهما، من أتباع نظرية تكفير المجتمع بكامله.

ورفض هذا التيار الإسلام المعتدل ودعا إلى "إعادة" المجتمع للإسلام (حسب زعمه) ولو بحد السيف، بل حاول بعضهم تقليد المسلمين الأوائل الذين هاجروا من مكة إلى المدينة حتى قوي عودهم فعادوا وفتحوا مكة.

وظن هؤلاء المتأسلمون أن بإمكانهم، من خلال السلاح والعنف، إعادة المليار ونصف المليار من المسلمين الحاليين الذين يتهمونهم بالكفر والزندقة، إلى الإسلام كما يرونه، وشكلوا تنظيمات وفرقاً مسلحة عديدة، كفرق التكفير والهجرة، والنصرة، والأنصار، وجند الإسلام، وجند محمد وما أشبه ذلك من التسميات، وبدؤوا سلسلة من الأعمال الإرهابية ظنوا أنها كفيلة بتحقيق أهدافهم.

ويلاحظ من خلال دراسة ممارستهم العملية، أنهم تبنوا أمرين رئيسيين: الأول هو استخدام العنف المسلح ضد الجميع شعوباً وحكومات، والثاني أنهم بسبب عجزهم عن فهم الإسلام وتطوير الخطاب الإسلامي، قدسوا أعمال وأقوال الفقهاء المتهافتة التي علقت بالإسلام وألصقت به في عصور الانحطاط، رغم بعدها عن صحيح الإسلام. فتمسكوا مثلاً بموقف الفقهاء من المرأة ولباسها والرجل وهندامه، وغير ذلك من التصرفات والسلوك الذي لاعلاقة له بالإسلام، والذي يرتبط أصلاً وكلياً بالعادات والتقاليد..

واعتبروه من صلب الدين. وأمام هذا الفراغ الأيديولوجي والجهل المطبق بالإسلام وعظمته كفلسفة للكون والحياة، أدخلوا الإسلام فلسفة وإيمانا وتطبيقاً في نفق، كما أرادوا للمجتمعات العربية والإسلامية أن تدخل في هذا النفق بحجة تطبيق الشريعة والفقه وما في حكمهما، دون تدقيق أو تمحيص. وصوروا الدين الإسلامي الحنيف، دين المحبة والتسامح والمتمم لمكارم الأخلاق، كدين من مهمة أبنائه إثارة الحروب ضد الأديان والطوائف والمذاهب الأخرى، وتخلوا عن الرئيسي لحساب الثانوي.

وأرادوا تشكيل حياة الناس السياسية والاقتصادية في إطار فقههم ورؤاهم، وهم لا يرون أبعد من أنوفهم. وتوصلوا دون تمعن أو اجتهاد أو رؤية إسلامية شاملة، إلى أن الإسلام هو بالضرورة دين ودولة، وتناسوا أن هذا يصح لدولة رئيسها النبي (كدولة المدينة)، وليس غيرها.

كما تجاهلوا سعة الدين الإسلامي وقابليته لاستيعاب كل ظرف طارئ وكل تطور بشري، من خلال مبدأ الاجتهاد والتمعن في تفسير الآيات المتشابهات والسنة الموثوقة وبعض التعليمات الأخرى. ووضعوا السلوك تحت خيمة الممنوعات والحرام والمكروه إلا بعض الاستثناءات، وصار كل شيء محرما على المسلم، مع أن الإسلام على العكس من ذلك أباح كل شيء دنيوي، باستثناء أربعة عشر محرما.

وبضع منهيات، لأن الإباحة هي الأساس في الإسلام. وهكذا قلبوا مفاهيم الإسلام الأصلية رأساً على عقب وهمشوا الاجتهاد، وقدسوا النقل والنصوص المنقولة وقللوا من شأن العقل، وجعلوا ما في الدنيا حراماً إلا ما ندر، واكتفوا بشعارات خارج إطار الزمان والمكان وحاجات المجتمعات.

وصار هدفهم السياسي والأيديولوجي الأثير، هو إقرار أن الشريعة كما يفهمونها مصدر كل تشريع، واعتقدوا أن هذا النص وحده يحول الدولة إلى دولة إسلامية، دون أن يقولوا لنا ما هي الشريعة الصحيحة والفقه الصحيح! وأعفوا أنفسهم من البحث في أكداس كتب الفقه المتراكمة، واستخراج ما تطمئن إليه الأنفس والأقرب إلى فلسفة الدين وتعليماته، بل إن بعضهم تناسى القرآن الكريم واهتم بالحديث وحده، واعتبره مساوياً للقرآن في شرحه وتعليماته.

وفي الخلاصة أعفوا أنفسهم من إنشاء برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، في إطار أخلاقيات الإسلام وصحيح الدين، صالحة لإدارة الدولة إذا استلموا الحكم. واكتفوا بشعار عام وإشكالي، هو أن الشريعة (شريعتهم) مصدر القانون. ولذلك أشغل من تولى السلطة منهم أنفسهم بـ"أخونة" الدولة، لأنهم لا يملكون رؤية واضحة تدلهم إلى أين يسيرون، واعتبروا أنه يكفيهم أن يطبقوا فيها ما يعرفون من فقه حتى لو كانت مصادره ضعيفة.

وقد ذهب بعضهم بعيداً فنادى بعودة الخلافة كما كانت، مع أنها اجتهاد بشري قديم له شروطه وظروفه، دون أن يدققوا في مدى صلاحيتها لو عادت، أو قدرتها على حل مشاكل المجتمعات الإسلامية القائمة. وربما هربوا إلى هذا الشعار الذين لا يعرفون فحواه ولا أبعاد تطبيقه ولا نتائج هذا التطبيق، بسبب عجزهم عن استيعاب التطور، أو العودة لصحيح الدين ولخطاب إسلامي نقي من الشوائب ومن جهل الفقهاء، حتى أنهم لم يهتموا بمصالح الذين كانوا يفتون لهم. لهذا وذاك لاقوا ما كان لا بد أن يلاقوه..

 

Email