حوار مع ملحد

ت + ت - الحجم الطبيعي

ذات يوم جمعتنا المصادفة مع مجموعة من عرب مغتربين وأصدقاء ألمان على مأدبة عشاء، ورحنا نتحدث في موضوعات شتى، من الموسيقا إلى الرسم، ومن الفلسفة إلى الأدب، ومن النساء إلى النبيذ، ونتلمس الفروق بين الثقافة العربية المعطرة بالعاطفة والانفعال، والثقافة الألمانية الغارقة في العقل والمنطق.. وفجأة سألني أحد الحضور: هل تؤمن بالأديان؟! كان السائل هو الدكتور هانز ولفغانغ، دكتوراه في العلوم الاجتماعية، ومن عشاق كارل ماركس صاحب المقولة الشهيرة "الدين أفيون الشعوب"! قلت: وفق تعاليم الإسلام أؤمن بالرسالات السماوية، وبحق كل إنسان في أن يعتنق ما يشاء من أديان، دون أن يخل هذا بحقوقه الإنسانية أو يعرضه لتمييز أو اضطهاد.

سألني: هل تقول إن الإسلام دين من السماء؟! أجبت بهدوء وبطء: يقينا، ودون ذرة شك واحدة. فسألني: وما دليلك أو حجتك العملية؟

لفني الصمت ورحت أفكر في دليل يمكن أن يقتنع به ماركسي ملحد ينفي الدين من أساسه، ولا يعتقد إلا في البراهين المادية، ولا ينفع معه ما يردده أغلب رجال الدين من كلام عاطفي عن الفطرة والمعجزات اللغوية.

وفجأة لمعت في عقلي فكرة تبدو مستحيلة.. فقلت له متحدياً: المنهج الماركسي نفسه! أشاح ولفغانغ بوجهه ممتعضاً: وكيف ذلك؟ قلت: المنهج الماركسي في التفكير والتحليل، يعتمد على الاستقراء، ويستند إلى التطور المنطقي الطبيعي للأفكار والقيم والنظم عبر التاريخ الإنساني.

قال: نعم. قلت: إذن، نطبقه علي الإسلام وكتابه القرآن، ولنر.. هل هو قادم من السماء أم من اختراع إنسان.. والبداية من سؤال مهم: هل الإسلام طفرة غير مسبوقة في الفكر والقيم والتشريعات والعلاقات التي نظمها بين الناس، من زواج وطلاق وميراث ومعاملات وحقوق وواجبات.. إلخ، أم هو مجرد تطوير ونقلة إضافية في سلم المعرفة البشرية من قيم وعلاقات؟ هل هو حالة فريدة من المعارف الروحية والمادية في التاريخ الإنساني تفوق ما عرفه البشر قبل بزوغ شمسه، أم هو حالة متكررة في رحلة الإنسان للتطور المعرفي، تحدث كلما توافرت لها ظروف ثقافية وحضارية مواتية؟ انتبه الحاضرون وران عليهم الصمت والترقب.. وأخذت أشرح البيئة الصحراوية التي سطع فيها الإسلام، ومدى تخلفها الشديد اجتماعياً وثقافياً، وقلت: وعلى تخوم هذه البيئة انتصبت حضارتان سادتا العالم، حضارة الروم وحضارة الفرس، فنون وآداب وعمارة ومدارس فلسفية وجيوش منظمة، ثم بقايا حضارة اليمن القديم في جنوبي شبه الجزيرة العربية.

وإذا اقتربنا من مركز الدائرة، وأقصد مكة وأهلها، نجدها قد تزيد درجة أو أكثر قليلاً على سكان البادية، ولها مصدر أساسي للرزق، رحلتان للتجارة إلى الشام واليمن صيفاً وشتاء، والتجارة تقوم على زوار الكعبة الذين يتوافدون عليها من كل أنحاء الصحراء المترامية. كان هؤلاء العرب يعيشون في جزيرتهم شبه منعزلين عن العالم، لا يطلون عليه إلا نادراً، ولا يعرفون من أمره إلا القليل، حسبما تتيحه الرحلتان، وبعض شيوخ ثقاة مغرمين بالمعرفة، مثل ورقة بن نوفل وغيره.

وقد مضت أيام النبي محمد قبل الرسالة مثل بقية أهل مكة من الناحية الحضارية، وإن اختلفت في تفاصيل إنسانية تتعلق بمكارم الأخلاق ورجاحة العقل وسمو النفس ورفعة المكانة.

وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم وتفحصنا ما ورد فيه من أحكام في المعاملات والعلاقات والحقوق والواجبات، فعلينا أن نسأل سؤالاً بديهياً: من أين يمكن لمحمد أن يأتي بها؟ خذ مثلاً الميراث، تجد أن قواعده غير مسبوقة في أي دين أو ثقافة أو حضارة، أحكام الزواج والطلاق من أول الخطبة إلى التسريح بإحسان، حكايات الأنبياء التي لم يرد ذكرها إلا في القرآن، مثل ذي الكفل من أين عرف محمد بأمرهم؟ ومن علمه حكاياتهم؟

هذه مجرد نماذج محدودة.. ناهيك عن بقية أحكام القرآن. إذن، نحن أمام نسق من التشريعات لم يعرفه البشر من قبل، تشريعات تحكم علاقات شديدة الخطورة لسلامة الجماعة الإنسانية، كعلاقة الرجل والمرأة، الرعية وولي الأمر، التكافل بشكل منظم وملزم، حقوق الإنسان وواجباته تجاه الآخر. لا أريد أن أطيل عليكم.. لكن المؤكد أن ما جاء في القرآن هو معارف روحية ومادية مقطوعة الصلة بثقافة أهل الجزيرة العربية، ومتجاوزة كل ما ورد في الحضارات السابقة والمعاصرة.. أي يمكن أن نصف الإسلام بنسقه الديني والفكري والمعرفي، بأنه طفرة في حياة الناس..

هل محمد في ظروف بيئته وثقافتها يستطيع أن يؤلف شيئاً كهذا؟! هل سبق لمفكر أو فيلسوف أو كاهن أن أنتج هذا القدر من الجدة والمعرفة في أي عصر منذ بدء الخليقة؟

بالطبع.. لم يحدث..

إذن من أين جاء؟ ببساطة، من قوة أكبر وحكمة أعظم من الإنسان، قوة لا نراها، لكن نستشعر وجودها العظيم حولنا، هذه القوة العظيمة هي الله سبحانه وتعالى.. وأوصلت رسالتها إلينا عن طريق بشر منا، هو محمد بن عبد الله، إذن هو رسول الله. قال ولفغانغ حائراً: لا أستطيع أن أرد عليك، لأنني لم أقرأ القرآن ولا أعرف الإسلام!

ضحكت متسائلاً: وكيف تحكم على دين لا تعرف عنه شيئاً؟

Email