الواقع والخيال في بلاد الشام

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أن الواقع أصبح أكبر من أي خيال أو تخيل في بلاد الشام، أو على الأقل في بعض بلاد الشام، وأن ما كنا نعتقده قبل عقود أوهاماً وأحياناً أمراضاً لدى أولئك المفتونين بنظرية المؤامرة، ليس هو ترهات أو تصورات مريضة، وإنما أفكار أضحت، مع الأسف الشديد، قريبة من الواقع وقابلة للتحقق، كما تؤكد اليوم التطورات التي تحدث في بعض البلدان العربية، وخاصة بلاد الشام والعراق. لنسترجع مثلاً موقف معظم مفكرينا وأحزابنا وحكوماتنا من مشاريع الحركة الصهيونية، التي كانت تتحدث عنها الصحف في النصف الأول من القرن العشرين.

حيث كان هؤلاء، أفراداً وأحزاباً وحكومات، يرون أن المشاريع الصهيونية ما هي إلا خيالات مستحيلة التحقيق، ذلك أن اليهود جبناء ولا يمكن، حسب رؤاهم، أن يتغلبوا على العرب في حروبهم المحتملة، واستطرادا لا يستطيعون إقامة دولة "مسخ"، في محيط عربي واسع وبين دول عربية كبيرة وكثيرة يزيد عددها عن سبع دول في ذلك الوقت.

ولنتجاوز هذا ونعد إلى العقود الأربعة الأخيرة، حيث كنا نسخر أيضاً ممن يقول إن إسرائيل تعمل على تقسيم بلاد الشام إلى دويلات صغيرة، بل إلى "كانتونات" طائفية أو إثنية أو دينية أو ما يشبه ذلك، تماثل إسرائيل من حيث بنيتها وتركيبها وشرعيتها، لتتساوى إسرائيل مع غيرها من دول الجوار باعتبارها دولة دينية وحيدة الرؤية، لا تطبق معايير الدولة الحديثة، وتتجاهل معطيات العصر.

وترفض التعدد، وعندما يتحقق ذلك تأمل أن تخف وطأة اتهامها بالعنصرية والظلم وعدم المساواة المعمول بها والمطبقة ضد العرب، وعندها قد تبرر لنفسها ترحيل سكانها العرب إلى "كانتون" فلسطيني مجاور، كي تبقى دولة يهودية صرفة "نقية" .

كما يتمنى عتاة الصهاينة، وبما يتوافق مع ما كان يتوقعه بعض الدارسين والمفكرين والسياسيين، الذين كنا نتهمهم بأنهم هواة خيال وتخيل وتفسير كل شيء بالمؤامرة، على افتراض استحالة تحقيق هذا التقسيم، أي استحالة تقسيم سوريا والعراق والأردن، خاصة وأن معظم الأحزاب السياسية في هذه البلدان تزين أهدافها بالدعوة للوحدة العربية، وإقامة وطن عربي واحد، ودولة عربية واحدة، خاصة وأن حزب البعث كان حينها يحكم سوريا والعراق، أي القطرين الرئيسيين الأكبر والأقوى في بلاد الشام.

وها نحن الآن نرى بأم أعيننا توجه هذه البلدان السريع إلى التقسيم وإقامة "كانتونات ودويلات"، بعد أن تم تمزيق النسيج الاجتماعي لشعوبها، وإحياء غرائزها الدينية والطائفية والمذهبية، حتى أصبحت مجموعات متناحرة، وتفاقم الصراع فيها أيضاً بين التعدديات الإثنية لتصبح تجمعات سكانية متصارعة، أو سوف تتصارع في القريب العاجل.

من كان يتصور أن العراق صار جاهزاً كي يتحول إلى "كانتونات" ثلاثة سوف يسميها دولاً في أي وقت، تعتمد شرعية كل منها إما على الطائفية أو على الإثنية، وما زال الكل يدلس ويرفض الاعتراف بأن العراق أصبح كياناً "كونفدرالياً" فعلياً؟! وأي خيال كان يتصور أن سكان الأردن يتحدثون علناً عمن منهم من أصل فلسطيني أومن أصل أردني، وأن شعب فلسطين له "حكومتان ودولتان وكانتونان"؟

بل من كان يمكن أن يقبل سماع (مجرد سماع) إمكانية تقسيم سوريا إلى "سوريات" وإعادة تشكيلها من ثلاثة كانتونات وربما أربعة، وتقسيم لبنان مثلها، والأكثر إيلاماً (وبؤساً) أن العداء بين سكان هذه "الكانتونات" في كل من هذه البلدان، هو عداء مستحكم لا يقبل التصالح ولا المهادنة، ولا التسامح ولا العيش المشترك.

وأخيراً، من كان يصدق أن المواطن في هذه البلدان يقتل أبناء وطنه بوحشية وهمجية، لأنهم من مذهب آخر أو طائفة أو دين آخر أو من أصل إثني مختلف، ويفتخر بما يعمل؟ وكذلك تقصف الجيوش بيوت مواطنيها بالطائرات والصواريخ والدبابات دون رحمة، وأن تلفزيون أحد البلدان يحتفل ويذيع الأغاني الوطنية الحماسية بعد أن دمر جيشه أحد الأحياء في إحدى مدنه الكبيرة واحتله!

تعمل السياسة الإسرائيلية منذ عقدين على انتزاع اعتراف العرب والعالم بإسرائيل "دولة يهودية نقية"، وكانت في البدء تطالب بذلك بحذر وخشية وتردد وخجل، وها هي الآن بعد أن حصل عندنا ما حصل لا تجهر بهدفها فقط.

ولا تعمل لتحقيقه فحسب، بل يفخر سياسيوها بأن برامجهم الانتخابية تتضمن ما يحقق هذا الهدف، وخاصة ما يتعلق منه بتوسيع المستعمرات على حساب الأراضي العربية وطرد سكانها (بدو النقب مثلاً)، واستمرار اضطهاد سكان المثلث العربي ومصادرة أراضيهم، والتضييق على الفلسطينيين ومنظماتهم ومؤسساتهم ليقبلوه كهدف مشروع....

ويجهرون بمشاريع مبادلة الأراضي وترحيل العرب من إسرائيل وتحويلها إلى دولة يهودية خالصة! وإذا تحقق تقسيم الدول المحيطة فلن تكون الدولة الإسرائيلية عند ذلك "كانتوناً" صغيراً، أو دولة "مسخاً" كما كنا نسميها، لأن الدول المحيطة بها سوف تتحول بالضرورة إلى دول عاجزة كلياً عن تهديدها أو مطالبتها بالحقوق المهضومة، فمن يطالب عندها بتحرير الجولان المحتل أو بحق العودة أو بحدود عام 1967؟! يبدو أن الأمر لم يعد مؤامرة متخيلة، بل أصبح الواقع في بلادنا أكبر من أي خيال.

 

Email