أميركا وضرر سنودن

ت + ت - الحجم الطبيعي

ألحق إدوارد سنودن بالولايات المتحدة، ضررا لم يلحقه بها أي شخص عادي آخر في الذاكرة الحديثة، ولا يقتصر الأمر على سرقة المواد السرية ونشرها. صحيح أن ذلك كان أمرا سيئا بما فيه الكفاية، لأن تلك الإفصاحات تجعل الولايات المتحدة تبدو منافقة ومخادعة. ولكن محاولات سنودن، البالغ من العمر 30 عاما، للحصول على حق اللجوء، تثير أيضا موجات متصاعدة من الغضب والاتهامات، كلها موجهة لواشنطن أيضا.

وإليكم مثال واحد على ذلك؛ عندما غادر الرئيس البوليفي إيفو موراليس مؤتمرا للطاقة في موسكو، اتهمته إسبانيا بأنه كان يهرب سنودن خارج البلاد ليمنحه حق اللجوء. فأنزلت السلطات النمساوية طائرة موراليس في فيينا، وفتشتها، ولم يكن سنودن على متنها، بطبيعة الحال، وغضب موراليس من الولايات المتحدة، وليس من إسبانيا أو النمسا.

وهو يهدد الآن بإغلاق السفارة الأميركية في لاباز، قائلا: "إننا أفضل حالا بدون الولايات المتحدة، من الناحيتين السياسية والديمقراطية". وأغضب ذلك رافاييل كوريا، رئيس الإكوادور، فهو وموراليس صديقان ومعاونان لهوغو شافيز، الرئيس الفنزويلي الراحل الذي تمحورت حياته السياسية حول نهج مفعم بالكراهية حيال الولايات المتحدة.

وبعد موقف موراليس، وتهديدات من جانب واشنطن تحذر الإكوادور من تقديم حق اللجوء لسنودن، ألغى كوريا، بإجراءات عاجلة، اتفاقية التجارة الحرة بين الإكوادور والولايات المتحدة، الأمر الذي شكل صفعة علنية على وجه واشنطن. إلا أن الضحايا سيكونون أبناء شعبه، الذين سيضطرون، على الأرجح، إلى البدء في دفع رسوم التصدير، حيث يذهب ما لا يقل عن 43% من صادرات الإكوادور إلى الولايات المتحدة، فيما لا تباع سوى 0.00045% من صادرات الولايات المتحدة للإكوادور.. فمن الخاسر هنا؟

وقام سنودن، الذي كان متعاقدا مع وكالة الأمن القومي الأميركية، بتسريب وثائق سرية للغاية تصف برنامج مراقبة أميركي يدعى "بريزم"، يراقب سجلات الهاتف الخليوي والبيانات الإلكترونية الصادرة عن أفراد في الولايات المتحدة وخارجها.

وكان رد فعلي الأول، نظرا لأنني غطيت قضايا الأمن القومي لسنوات عديدة، هو إدراك أن أفعال سنودن كانت غير قانونية بجلاء، غير أنني كنت مهتما أيضا بمعرفة المدى البعيد الذي أخذت إليه إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما برنامجها الاستطلاعي المضاد للإرهاب. وقد ذكرني ذلك ببرنامج المراقبة الداخلي غير القانوني، الذي اعتمده الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وأزيح عنه الستار عام 2006.

وبسنوات المراقبة الداخلية عير القانونية في سبعينات القرن الماضي، التي حفزت تشكيل لجنة الكنيسة، التي كلفت بالتحقيق في الانتهاكات الرقابية المرتكبة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية. والفرق هذه المرة هو أن برنامج وكالة الأمن القومي قانوني، فقد وافقت عليه محكمة مراقبة الاستخبارات الخارجية.

ولكن هذا لا يجعله سويا، فكم منكم يريدون لبيروقراطيي الحكومة الأميركية أن يراقبوا رسائلهم الإلكترونية ومكالماتهم الهاتفية ومحادثاتهم عبر برنامج "سكايب"، حتى لو كان ذلك لغرض مستحق من الناحية النظرية؟ والآن بعد أن أميط اللثام عن تفاصيل برنامج المراقبة ذلك، بفضل سنودن، انظروا إلى ما أحدثه من ضرر..

ويقول جاكسون جينس، رئيس المعهد الأميركي للدراسات الألمانية المعاصرة في جامعة "جونز هوبكنز": إن رد الفعل في ألمانيا وجميع أنحاء أوروبا إزاء ما كشف عنه بخصوص مراقبة وكالة الأمن القومي، لا يزال يتصاعد في موجات أكبر. والألمان بصفة خاصة، "غاضبون" بشأن كونهم "أهدافا لمراقبة مكثفة من جانب الولايات المتحدة".

وقالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، وهي غاضبة بشكل واضح: "إن مراقبة الأصدقاء ليست بالأمر المقبول ولا يمكن السكوت عنها، إذ أننا لم نعد في الحرب الباردة". ويبدو أن ذلك يمثل الرأي السائد في جميع أنحاء أوروبا، التي تمثل موطنا لأقرب أصدقاء الولايات المتحدة. وقالت كاثرين آشتون، الممثلة العليا للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، إن الاتحاد يطلب "توضيحا عاجلا لصحة هذه الادعاءات والوقائع المحيطة بها"..

والآن، تتذمر البرازيل أيضا. غير أن تلك التداعيات لا تقتصر على الغرب، فالصين تهلل حاليا، لا سيما وأن واشنطن اتهمتها مؤخرا بإطلاق هجمات سيبرانية وغيرها من أشكال المراقبة الإلكترونية، مستهدفة الحكومة والشركات الأميركية. وتزداد التغطية الصحافية والتلفزيونية لما يسميه الصينيون "بوابة - بريزم".

ووكالة الأنباء الحكومية الصينية شينخوا، هاجمت واشنطن قائلة: "لقد تبين أن الولايات المتحدة، التي طالما حاولت أن تلعب دور البريئة بصفتها ضحية للهجمات السيبرانية، تمثل أكبر أشرار عصرنا"..

حظا سعيدا في التفاوض مع الصين بشأن تجسسها السيبراني الآن! وعلاوة على ذلك، فإن العديد من الصحف تفيد أن وكالات الاستخبارات الأميركية التي تتعقب الإرهابيين المعروفين على مستوى العالم، تجد أن العديد منهم باتوا يلزمون الصمت. بفضل سنودن، لم يعد أولئك الإرهابيون يستخدمون الإنترنت أو "سكايب" أو هواتفهم المحمولة. فما الذي يتعين علينا فعله؟ إن التفسير الذي استخدمته واشنطن مرارا وتكرار "الجميع يفعل ذلك"، لا يجدي نفعا، وإن كان صحيحا. على الولايات المتحدة أن تجد وسيلة لاعتقال سنودن، فهو يستحق ذلك، وعليها أن تكف عن التجسس على أصدقائنا دون إذن.

 

Email