تآكل سوريا وملامح التقسيم

ت + ت - الحجم الطبيعي

أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بلسان رئيسه صالح مسلم، أنه قرر إقامة ما سماه حكماً محلياً أو إدارياً في مناطق القامشلي والميادين وتل أبيض شمال شرق سوريا، وأكد مسلم أن هذه الخطوة تهدف إلى تأمين حياة الناس المعيشية، وتوفير الأغذية والمحروقات والأدوية لهم، ورعاية شؤونهم اليومية والحياتية، وأنها ليست انفصالاً عن سوريا ولا خطوة في طريق الانفصال، لأن الحزب، حسب تصريح مسلم، يؤمن بوحدة سوريا، وبأن المناطق الكردية جزء من الأراضي السورية الموحدة.

وقد أصدر المجلس الوطني الكردي (الذي يضم ائتلاف عشرة أحزاب كردية أخرى) بياناً رفض فيه هذا القرار، وأكد أن القضية الكردية هي جزء من القضية السورية بشكل عام، وأنها لا تحل، ولا يمكن أن تحل، إلا في إطار نظام سياسي سوري ديمقراطي تعددي، يحترم الحريات وحقوق الإنسان، ومنها حقوق الأكراد، وقال إن النظام السوري المقبل سيضمّن الدستور حقوق الأكراد ويحترمها ويحفظها، واتهم الاتحاد الديمقراطي الكردي بأنه سار بقراره هذا الخطوة الأولى في طريق الانفصال.

وقد هددت الحكومة التركية بدورها، وتوعدت بالعمل ضد هذه الخطوة التي ستحرض الأكراد في تركيا على المطالبة بالحكم الذاتي وبالانفصال مستقبلاً.

لو كان الهدف هو الذي صرح به صالح مسلم، أي الاهتمام بالأمور المعيشية للسكان، لكان الأمر قابلاً للحوار والتداول، إلا أن الهدف الحقيقي كما يعتقد السوريون، هو السير في طريق إقامة الحكم الذاتي، وصولاً للانفصال مستقبلاً، ذلك أن مسيرة الحزب في العام ونصف العام الأخيرين، تؤكد هذا الافتراض.

فقد كان مناصرو الحزب يرفعون في مظاهراتهم العلم الكردي فقط، وعندما سئل صالح مسلم في المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق، وهو نائب رئيسها، عن السبب لم يجب جواباً واضحاً، وإنما بجمل وعبارات غير مفهومة، وقد طلبت منه هيئة التنسيق رفع العلم السوري إلى جانب الكردي في المظاهرات المقبلة، لكنه لم يفعل حتى الآن.

 وفي الوقت نفسه، كان أنصاره يقفون في وجه الأكراد الآخرين وفي وجه المتظاهرين عامة المعادين للنظام، ويقاومون مسيراتهم، ويستخدمون العنف غالباً، والسلاح أحياناً، مما حدا بالفصائل الكردية والسورية والفصائل السياسية السورية، أن تتهم الحزب بالتحالف مع النظام فعلياً، وإن كان ينكر ذلك قولاً، إضافة إلى أنه تسرب خبر من قلب النظام إلى هيئة التنسيق بتحالف الحزب مع النظام، حيث كان يطلعه دورياً على مجمل نشاطات الهيئة.

إضافة إلى هذا، فإن برنامج الحزب الذي أعلن، هو في الواقع أكبر من مشروع الإدارة المحلية أو تسيير الأمور المعاشية، حيث تضمن إصدار دستور، ويكون الدستور عادة للدول وليس للإدارات المحلية، وإجراء انتخابات، وكل هذه وغيرها تتجاوز حاجة الإدارة المحلية.

لقد عانى الأكراد في سوريا خلال العقود الخمسة الماضية معاناة شديدة، فلم يعترف النظام لهم بأي حق ثقافي أو حتى إجرائي، فلم يكن لهم الحق في تعلم لغتهم، أو الاهتمام بثقافتهم، وبقي عشرات الآلاف منهم دون بطاقات شخصية، لأن النظام يعتبرهم غير سوريين (والمفارقة أن هؤلاء غير السوريين يؤدون خدمة العلم)، ونادراً ما كان يقبل أحدهم موظفاً في الدولة، وقائمة الممنوعات عليهم تطول، هذا إضافة إلى الإذلال والاعتقال وغير ذلك.. ومع هذا تنبغي الإشارة إلى أن قضية الأكراد السوريين أكثر تعقيداً مما يظن المراقب..

أولاً: من المتعذر حل قضية أكراد سوريا دون الأخذ بعين الاعتبار أن الأكراد موزعون على أربع دول إقليمية، وهي إيران (8 ملايين) وتركيا (15 مليونا) والعراق (5 ملايين) وسوريا (مليونان)، وهذه بالطبع أرقام تقديرية.. وعلى أية حال، فأي انفصال لأي مجموعة كردية في أي بلد منها، يتعذر إلا بقرار دولي أو إقليمي بإقامة دولة كردية، وهذا يكاد يكون مستحيلاً حالياً، وعليه فمأساة الأكراد ستبقى قائمة إلى زمن غير معلوم.

ثانياً: إن الأكراد السوريين موزعون على سوريا بكاملها وغير مجمعين في منطقة واحدة، وتجدهم في محافظات دمشق وحلب وإدلب ودير الزور والحسكة وغيرها، ويقول الأكراد إن عددهم يتجاوز (3) ملايين، ولكن هذه الملايين موزعة عشوائياً، وقسم كبير منهم لا يتكلم الكردية ولا يعرف عن الثقافة الكردية وعن الأكراد شيئاً، أما الذين يسكنون في مناطق متجاورة، فلا يتجاوز عددهم المليونين غالباً.

ثالثاً: إن القضية الكردية متداخلة و"متلاحمة" مع القضية السورية، أعني أن حلها يقتضي قيام نظام ديمقراطي تعددي أولاً، ثم تضمين الدستور نصوصاً تحترم حقوقهم القومية والثقافية والمعيشية وغيرها من الحقوق.

رابعاً: إن تركيا التي يسكنها خمسة عشر مليون كردي، لهم مطالب قومية وثقافية، ما زالت ترفض حتى الآن إعطاءهم حكماً ذاتياً، وتخشى أي حركة تعطي للأكراد السوريين بعضاً من حقوقهم، لئلا يكونوا مثالاً لأكراد تركيا يمكن الاحتذاء به.

خامساً: تزامن إعلان التجمع الديمقراطي الكردي، مع إعلان آخر للمسلحين من القاعدة وحلفائها يقول إنها ترغب في إقامة إمارة إسلامية في شمال سوريا، وهناك بعض الحمقى من متطرفي أهل النظام يضعون في اعتبارهم إقامة دويلة على الساحل السوري إن خسروا سوريا، ويهيئون الشروط المناسبة لذلك، فهل بدأت سوريا تتآكل؟

لقد ألقى الاتحاد الديمقراطي الكردي حجراً في المياه الراكدة، وحاول انتهاز فرصة الظروف السورية الحالية ليحقق ما يعتقد أنه مكاسب، لكنه في الواقع أسس لصراعات مقبلة بين الأكراد السوريين بعضهم تجاه البعض الآخر من جهة، وبينهم وبين العرب من جهة أخرى، وأربك الجهود التي تبذل لحل المشكلة الكردية لدى الطرفين السوريين العربي والكردي.

Email