ما بين عبدالناصر وزايد

ت + ت - الحجم الطبيعي

كلما قلبت أوراق التاريخ العربي الحديث، لا يأسرني سوى سيرة زعيمين لا ثالث لهما: الرئيس جمال عبدالناصر والرئيس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان عليهما رحمة الله.

كلاهما تميزا بشخصية كاريزماتية لا تتكرر. وكلاهما لم وربما لن يتكرر. والحقيقة أنه لا يوجد سر غامض في حياة الزعماء الكبار الذين يتركون بصمتهم في قلوب العالم. ولشدة بساطة المسألة حتى ظننا أنها خلطة سحرية لا يمكن أن يحصل عليها أي زعيم لكسب مودة شعبه. ولو قرأنا تاريخ عبدالناصر وسيرة الشيخ زايد لوجدناهما قد تلاقيا في كثير من الأمور التي يتطلبها حكم شعب وقيادة أمة.

عبدالناصر جاء ثائراً على الحال التي وصل إليها أبناء بلده نتيجة لاستبداد ملك ظالم. وزايد جاء ليثور من أجل شعبه الذي يراه في وضع لا يليق بكرامته ولا بما يملكه من خير أنعم الله به عليه. فوجده متفرقاً ممزقاً متعباً بعد سنين من الاستعمار الذي لم يترك له سوى اليابس بعد أن التهم الأخضر. فوحد ناصر شعبه لبناء بلده، ووحد زايد بلده لبناء شعبه.

وعندما كانت المسألة تمس تقرير مصير شعب بأكمله، اختار ناصر أن يعيد لشعبه كرامته قبل لقمة عيشه، واختار زايد أن يظهر أمام العالم بكرامته وعزة نفسه.

فلم يبع ناصر عزة شعبه ولم يساوم زايد على كرامة أبنائه. وإذا بعبدالناصر يعلنها حرباً على الغرب المحتل ليحرر ليس فقط شعب مصر من خضوع ملك تنازل عن كل شيء، بل قرر أن يجعلها حرباً شعواء لتحرير كامل تراب الأمة العربية. وكان لعبدالناصر ما أراد. وهذا ما جعله عظيماً في عيون أبناء الشعب العربي من الخليج إلى المحيط. ويحق له بذلك أن يكون أول زعيم عربي يهزم نفسية المستعمر ويهد أركانه.

أما زايد، فقد حارب الاستعمار بحكمة البدوي البسيط من خلال دفاعه عن كرامة أبنائه دون إراقة قطرة دم واحدة. وفهم إن جل ما يخشاه الغرب (الذي كان يطبق فلسفة فرق تسد) هو أن يتوحد العرب فيسودوا.

 وهكذا قرر زايد أن يمسك الغرب من كعب أشيل، كما يقال، فبدأ بتوحيد سبع إمارات متفرقة ويعيد إليها مكانتها بعد أن ظن الغرب بأن العرب غير قادرين على أن يتحدوا. وهكذا التقى عبدالناصر وزايد في وضع كرامة الإنسان العربي فوق كل اعتبار ولم يساوما ولم يتنازلا في وقت كان فيه العربي يبحث عن كرامته قبل لقمة عيشه. فأعاداها له كل بطريقته.

والتقى الزعيمان بعد ذلك في مفهوم الزعامة عند كل منهما. فكلاهما نظر إلى كرسي الحكم وكأنه الثقل الأكبر والقلق الأعظم الذي لا ينتهي والأمانة التي أبت الجبال أن يحملنها. ونسيا أنهما على رأس قمة الهرم، فنزلا إلى الشارع دون حارس ولا رقيب سوى الله وجلسا مع الضعفاء وأكلا مع الفقراء ولبسا مما يلبسون، فكانا مثلاً للتواضع والنزاهة والسمو.

وعندما قرر عبدالناصر بعد هزيمة 67 أن يتخلى عن رئاسة مصر، ثار عليه الشعب المصري وبكاه حتى رجع عن قراره. وفي يوم ما أيضاً، قرر الشيخ زايد بعد أن أثقلته مسؤولية الحكم، أن يتنحى عن الرئاسة، وإذا بالإمارات حكومة وشعباً تنهض لتقول له: كلا ثم ألف كلا، حتى تراجع عن قراره!

وعندما قضى عبدالناصر نحبه، شيع العالم العربي نعشه في كل شارع وفي كل قرية، وأذنت المآذن على كل مسجد وبكاه الرجال والنساء والأطفال بشتى مذاهبهم كما لم يحدث من قبل. وعندما توفي زايد الإنسان، بكاه العالم العربي بأجمعه كما لم يبك أباً من قبل، كما بكته شعوب أخرى ونعاه قادة العالم بالحزن والأسى.

اكتشفت بالصدفة، أن وفاة الشيخ زايد قد حدثت في مثل هذا اليوم التاسع عشر من رمضان عام 1425 هجرية، وكفى.

Email