شباب فلسطين وانتفاضة النقب

ت + ت - الحجم الطبيعي

"نحن نخسر الأرض التي لا نقيم عليها"، تلك هي وصية آباء المشروع الاستيطاني الصهيوني للسيطرة على كامل أرض فلسطين، وطرد سكانها من بدو وحضر، فتعددت المخططات والتسميات وبقيت الأهداف ثابتة. وتكاثرت اللجان الإسرائيلية التي تأمر بهدم المباني الفلسطينية غير المرخصة، وما أكثرها في مناطق الجليل، والمثلث، والنقب.

في سياق هذا المخطط الجهنمي، أطلقت مشروع "تطوير النقب"، الذي تم تنفيذه على مراحل. كانت البداية مع قانون "الحاضر الغائب" عام 1951، ثم قانون التخطيط والبناء 1965. وبعد عام 1970 فرضت إسرائيل التوطين القسري على أكثر من ثمانين ألفاً من بدو النقب، في سبع تجمعات سكنية. واستخدمت أساليب قمعية متنوعة، وهجرت نصف سكان النقب وجمعتهم في منطقة السياج، التي باتت تضم اليوم أكبر تجمع عربي داخل أراضي فلسطين المحتلة.

في 2004 أصدرت قانون طرد الغزاة، الذي اعتبر بموجبه بدو النقب غزاة للأرض التي يقيمون عليها منذ قرون، بذريعة غياب سندات الملكية. فالبدو لم يعرفوا تلك السندات إلا مؤخراً، وكانوا يحتكمون إلى الأعراف البدوية دون سواها. فتم طردهم بالقوة من أرضهم الموجودين عليها قبل مئات السنين من قيام إسرائيل التي بدأت بتنفيذ مخطط الطرد الكثيف عام 2005، تحت ستار مشروع تطوير النقب الذي رصدت له قرابة ملياري دولار.

في عام 2011، صادقت حكومة نتنياهو على مخطط برافر، بعدما أدخلت عليه تعديلات قضت بتقليص الفترة الزمنية إلى ثلاث سنوات بدلاً من خمس، وفرضت انتقال البدو إلى التجمعات السكنية الجديدة مع تضييق مساحة الجغرافيا المخصصة لهم.

وفي الأسبوع الأخير من يونيو 2013 تمت الموافقة الأولى على مشروع قانون "خطة برافر"، الرامية إلى مصادرة أكثر من ثمانمئة ألف دونم من أراضي النقب، وإزالة نحو أربعين قرية بدوية غير معترف بها. وتم تهجير أكثر من تسعين ألف فلسطيني، لحصر بدو النقب الذين يشكلون 30 % من سكانه ضمن مساحة لا تتعدى 1 % من مساحة صحراء النقب.

على الفور، تظاهر سكان المدن العربية في إسرائيل، وعم الإضراب الشامل احتجاجاً على الخطة التي صادرت أرض العرب وإرادة شعوبهم، ولم تعترف بتراثهم وثقافتهم وتقاليدهم، ولا بشرعية وجودهم. وتخللت التظاهرات صدامات بين شرطة الاحتلال والمتظاهرين أدت إلى اعتقال عدد منهم. وذلك يطرح تساؤلات عدة حول الأسباب الكامنة وراء طرد بدو النقب في هذه الفترة المضطربة من تاريخ العرب.

أولاً: يندرج مشروع برافر الصهيوني ضمن مخطط للتهجير القسري لشعب فلسطين، واستهداف الوجود العربي على أرضها. لذا يجب على الفلسطينيين وجميع الحريصين على عروبة فلسطين وشعبها، مواجهته والتصدي له بكل الوسائل المتاحة.

ثانياً: يعتبر تنفيذ هذه الخطة الجهنمية بمثابة نكبة جديدة تهدد عروبة النقب، بعد طرد سكانها البدو من أراضيهم. وتشكل مرحلة متقدمة جداً في سياق المخططات الإسرائيلية لاحتلال أرض فلسطين، عبر استراتيجية تضييق الخناق على الفلسطينيين ودفعهم للتخلي عن أرضهم. يعيش في النقب قرابة 250 ألف فلسطيني، يشغلون أقل من 2 % من مساحة النقب، وتحتل إسرائيل 98 % وفق خطط عسكرية أو استيطانية مبرمجة، تم تنفيذها على مرأى من الفلسطينيين المتناحرين على سلطة وهمية لم تمنح لهم على أرض فلسطين، وفي ظروف مأساوية يتآمر فيها بعض العرب على البعض الآخر، ليسقط الجميع في تجاذبات دولية تكاد تخرجهم من أرضهم ومن تاريخهم وتراثهم.

ثالثاً: تذرعت إسرائيل بتنظيم أوضاع لقرى العربية غير المعترف بها، لتحصر بدو قرى النقب ضمن تجمعات سكنية بعيدة تماماً عن حياة البداوة. فجميع القرى العربية المتبقية في النقب تعيش ضمن مساحة ضيقة جداً، في حين تقيم إسرائيل بلدات يهودية لإسكان أكثر من ثلاثمئة ألف مستوطن، وخصصت موازنة كبيرة تحت عنوان "تطوير النقب" تقدر بستة مليارات دولار، تصرف خلال السنوات الخمس القادمة.

رابعاً: لا تقتصر خطورة الخطة على تنفيذ التهجير القسري فحسب، بل ترافقها عملية تشويه مبرمجة لاجتثاث تراث البداوة من النقب، وتحويل البدو إلى عمال مدنيين في الصناعة والخدمات والبناء. ويشير بعض الإحصاءات إلى أن 88 % من الإسرائيليين لا يعملون في الزراعة، وتدفع إسرائيل بدو النقب للعمل في هذا القطاع، بالدرجة الأولى لسلخهم عن بداوتهم الفطرية، وإدخالهم قسرياً في بيئة زراعية أو مدينية لم يعتادوا العيش فيها.

وهو تأديب عصري يبعد البدوي عن عاداته وتقاليده في السكن على أرضه، والدفاع المستميت عنها. كما أن التوطين التمديني القسري يفكك النسيج العشائري الهرمي، الذي ينظم العلاقات بين العشائر البدوية وفق أعراف وتقاليد معتمدة منذ قرون. يضاف إلى ذلك أن فرض السكن الثابت على بدو النقب ضمن مساحة ضيقة، يفقدهم حيز الحرية والاستقلالية التي كانوا ينعمون بها في فضائهم الصحراوي المفتوح.

لقد صمد بدو النقب طويلاً على أرضهم، وناضلوا بشراسة لمنع تدمير قراهم، وأعادوا مراراً ما هدم منها، وتحملوا قلة المياه وسوء المعيشة، ورفضوا تكرار نكبة الفلسطينيين حين رحلوا عن أرضهم.

 وحين انتفضوا مؤخراً ضد مخطط تهجيرهم القسري جماعياً، تجاوب معهم إخوانهم من فلسطينيي 1948، وشاركوا بكثافة في "إضراب الغضب". ورفع المتظاهرون شعارات ذات دلالة وطنية أبرزها: "لا لسلب أراضي أهالينا في النقب"، و"سيظل النقب فلسطينياً".

ولصحراء النقب أهمية استراتيجية، لأنها تحتضن موارد وثروات طبيعية غنية، تتكتم إسرائيل عليها. وهي تواجه اليوم مخططاً عنصرياً لطرد سكانها البدو، الذين عمروها قروناً عدة دون انقطاع.

ختاماً، لقد برزت أهمية صحراء النقب في الاستراتيجية الصهيونية منذ قيام إسرائيل، فأقامت على أرضها أكبر قاعدة نووية في الشرق الأوسط، وهي تسيطر اليوم بالكامل على أراضيها، مستغلة حالة الإحباط والشلل لدى القيادات والمنظمات الفلسطينية.

لكن وعياً وطنياً بدأ يتبلور في أوساط شباب فلسطين، الذين نزلوا إلى الشوارع للدفاع عن أرضهم وقضاياهم المصيرية، وتبنوا شعار "الشعب يريد إسقاط المخطط"، رداً على ممارسات إسرائيل العنصرية، وطالبوا السلطة الفلسطينية بمقاطعة فورية لكل أشكال التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي. فهل يستعيد شباب فلسطين وهج الانتفاضة للدفاع عن أرض فلسطين، ومنع تهجير من تبقى من شعبها؟

Email