منذ أيام قلائل غيبت يد المنون أشهر شخصية إعلامية أمريكية من جذور عربية عرفتها الحياة الإعلامية الأمريكية، لا سيما البيت الأبيض، برحيل هيلين توماس عميدة المراسلين الدبلوماسيين هناك، والتي استقالت من موقعها قبل ثلاثة أعوام، بسبب تهمة العداء للسامية المسلطة على رقاب الإعلام والإعلاميين في بلد يدعي أنه المدافع الأول عن الحريات في العالم.

هل كانت شهادة حق من هيلين توماس كبيرة المراسلين الأميركيين في البيت الأبيض، العربية الجذور، بشأن خروج الإسرائيليين من فلسطين، هي الهرطقة بذاتها حتى تجبر على الاستقالة؟

المؤكد أن سكان البيت الأبيض قد نسوا أو تناسوا للعميدة التي عاصرت نحو 10 رؤساء أميركيين، الخدمات الإعلامية والدور الذي قامت به طوال تلك العقود، وتذكروا لها مقولتها التي دخلت بها تاريخ الحقيقة وإن أخرجتها من البيت الأبيض: "على الإسرائيليين أن يخرجوا من فلسطين، وأن يعودوا إلى ألمانيا وبولونيا والولايات المتحدة والدول التي أتوا منها"..

لم تخف هيلين توماس يوما جذورها العربية، رغم تحيز بعض الصحافيات اليمينيات الأميركيات، مثل "آن كوتلر" التي وصفتها ذات مرة بأنها "عربية عجوز". تقول هيلين "أنا فخورة بجذوري العربية، وليس عندي تعليق على مثل تلك الأوصاف، وأفضل عدم التعليق عليها".

وعن أثر أصلها العربي على نظرتها إلى السياسة الأميركية، تقول توماس "بدون شك جميعنا يتأثر بمن نحن، بالطبع أتحدر من خلفية عربية ومن المؤكد أن لدي تعاطفا عظيما مع ما يحصل للعرب، الأرض تؤخذ منهم، والمياه تؤخذ منهم، منازلهم دمرها غرباء من كل أنحاء العالم"، وتضيف "العرب لم يتماسكوا معا بشكل كاف، كان لديهم الكثير من الديكتاتوريات ولو اهتموا ببعضهم لما استسلموا".

كانت هيلين توماس صوتا صارخا في برية غطرسة وتجبر البيت الأبيض، والذي عرفت الطريق إليه منذ أوائل الستينات، عندما جاءت إلى واشنطن لتغطي أخبارها المحلية. في تلك السنة ترشح السيناتور الشاب "جون كيندي" للرئاسة، وطلبت منها الوكالة أن تتابع حملته الانتخابية في واشنطن، ثم سألتها لاحقا أن تتابع حملته خارج واشنطن، وعندما فاز كيندي طلبت منها أن تكون مندوبة الوكالة لأخبار البيت الأبيض.

لم تكن سنوات هيلين في البيت الأبيض سوى مسيرة مستمرة ومتصلة من المواجهة، وعرفت بأنها شخصية كثيرا ما تتصادم مع الرؤساء. ولعل أكبر نصيب من المعارك في تاريخ هيلين توماس المهني في البيت الأبيض، إنما كان ذلك المتعلق بالرئيس جورج ووكر بوش، فقد قالت عنه ذات مرة "إنني أغطي أسوأ رئيس في التاريخ الأميركي"! ورغم أن بوش عاقبها على ذلك بعدم إعطائها الفرصة لأن تسأل السؤال الأول في مؤتمراته الصحافية وعبر ثلاث سنوات، إلا أنها لم تندم على وصفها له ورأت أنه فشل في كل المجالات، وخاصة على صعيد السياسة الخارجية، حيث قام بغزو بلد لم يفعل شيئا له. هل خلص باراك أوباما بدوره من ملاحقات هيلين توماس وأسئلتها؟ بالقطع لا، ففي بدايات أيامه في البيت الأبيض وجهت له سؤالا محرجا للغاية: لماذا تتحدث عن قنبلة إيران النووية ولا تتحدث عن دول أخرى في المنطقة تملك أسلحة نووية؟ لم تشر هيلين إلى اسم إسرائيل، لكن أوباما رفض أن يجيب عن السؤال خوفا من أن يشير إلى إسرائيل.

ولان خبرة هيلين الإعلامية بالفعل غزيرة ورصينة للغاية، فقد قدر لها في فترة من الفترات، وتحديدا في السنوات التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أن تعقد مقارنة بين ما جرى للإعلام الأميركي وما طرأ على الإعلام العربي.. كيف وجدت المقارنة؟

عبر أكثر من حديث صحافي جرى مع هيلين توماس في تلك الفترة، نجد أنها توجه لوما وتقريعا شديدين للإعلام الأميركي وتعطي الأفضلية للإعلام العربي... لماذا؟ لأنها رأت أن الإعلام الأميركي دخل في موت سريري بعد أحداث 11/9، وأنه لم يخرج منها إلا عام 2006، وبالتالي لم يطرح تساؤلات عن قضايا أساسية تتعلق بالحريات المدنية وقرار غزو العراق. وقد وجهت وقتها رسالة إلى زملائها في الصحافة اللبنانية والعربية قائلة "ابحثوا عن الحقيقة، أحيانا قد يكون ثمنها باهظا لكنها تستحق العناء وتابعت.. العالم العربي يستحق الحقيقة والناس ستتفاعل مع هذا الأمر، عليهم بالتأكيد السعي إلى ديمقراطية حقيقية، لكن عليهم أيضا أن لا يتسامحوا مع المياه والأرض التي تؤخذ منهم".

وفي كل الأحوال، لم تشفع لها العقود الطوال التي قضتها في البيت الأبيض بعد تصريحاتها عن فلسطين، وطالبتها أصوات كثيرة بالاستقالة، سيما بعدما رفضت رابطة مكافحة التشهير ADL الداعمة لإسرائيل في أميركا، اعتذار هيلين، الأمر الذي دفعها في نهاية المطاف إلى تقديم استقالتها.

رحلت هيلين توماس عن البيت الأبيض وبقى السؤال؛ إلى متى يظل العداء للسامية بمثابة السيف المسلط على رقاب كل من ينتقد إسرائيل؟

واليوم ترحل هيلين توماس عن الحياة، غير أنها تترك لنا صدى كلمات خالدة: "ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه؟".