طريق الديمقراطية وعرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ظلت المنطقة العربية بمنأى عن رياح التغييرات التي عصفت منذ سبعينات القرن الماضي أولاً بالبقايا المتبقية من الأنظمة الاستبدادية التي لم تتحول إلى الديمقراطية في أوروبا الغربية وهي إسبانيا والبرتغال. ثم تلتها في الثمانينات تحول دكتاتوريات أميركا اللاتينية القمعية إلى تبني الديمقراطية بدءاً من الأرجنتين، حيث انهار حكم العسكر تحت وطأة هزيمته في حرب الفوكلاند ضد بريطانيا في 1982، "لتكر سبحة" الأنظمة الديكتاتورية في باقي القارة وخاصة البلدان الرئيسية فيها كالبرازيل وشيلي وغيرهما.

ثم كانت حقبة التسعينيات حيث انهار المعسكر الاشتراكي، وكان ذلك إعلاناً لفشل تجربتها فيما سمي بـ"الديمقراطية الشعبية" القائمة على أحزاب طليعية تقود المجتمع وفق مسار محدد سلفاً. وقد بقت الصين وكوبا الدولتين اللتين مازالتا على النهج القديم، رغم انعطافة الصين الحادة نحو نظام السوق الحرة منذ 1978.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، شهدت جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية فترة طويلة من عدم الاستقرار، إلا إنها بدأت مؤخراً بتبني الديمقراطية طريقاً لها. وانتشرت الديمقراطية أيضاً في دول أخرى من قبيل تركيا واندونيسيا والفلبين وفي نيجيريا (أكبر الدول الإفريقية)، فضلاً عن انهيار نظام الفصل العنصري في جمهورية جنوب إفريقيا، وما أعقبه من إجراء انتخابات حرة في العام 1994.

وتراكضت دول أوروبا الشرقية إلى الدخول في الاتحاد الأوروبي في العام 2004. وبالمقارنة بين ظروف هذه الدول، وتلك الواقعة في آسيا الوسطى، وأيضاً بتجربة الاتحاد الروسي، فإننا نستطيع أن نستنتج أن دخول هذه الدول إلى الاتحاد الأوروبي قد رسخ فيها التحول الديمقراطي، وعصمها من تلك التقلبات التي عانتها وتعانيها التجارب الأخرى في روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى. وقد حاولت هذه الدول (أوروبا الشرقية) أن تستجيب لشروط الاتحاد الأوروبي المعتمدة أساساً على الالتزام بحكم القانون واحترام حقوق الإنسان وغيرها من مرتكزات الحكم الديمقراطي.

غير أن "الديمقراطيات الناشئة " إن جاز التعبير في كل من أوروبا الشرقية وروسيا وآسيا وأفريقيا، لا يمكن البتة مقارنتها بتلك الديمقراطيات العريقة التي نشأت في الغرب والتي تضرب جذورها عميقاً في تاريخ تلك المجتمعات وفي وجدان وضمائر شعوبها، والتي فوق هذا وذاك "نضجت على نار هادئة" عبر قرون طويلة.

ألم تجلب ثورة المستعمرات في أميركا الشمالية في العام 1775 وإعلانها جمهورية ديمقراطية في السنة التي تلتها حرباً ضروساً استمرت ثماني سنوات؟ ثم ألم تكن تلك الديمقراطية ديمقراطية "القلة البيضاء" من الأنجلو ساكسون الذين استقروا في الشمال الشرقي من الولايات المتحدة، الأمر الذي استدعى حرباً أخرى لا تقل ضراوة عن الأولى، شنها إبراهام لنكولن (1861-1865 )، ليحرر عبيد الجنوب الذين جلبوا من أفريقيا عنوة؟!

ثم كان على جماهير الشعب الأميركي من بيض وسود (شأن بقية الديمقراطيات العريقة) النضال من أجل حقها في الانتخاب والترشيح والتي حصلت عليها في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. وبدأ هذا الحق للرجل أولاً ثم المرأة تالياً، بعد أن كان مقتصراً على النخبة الثرية فحسب، وحركة الحقوق المدنية تنطلق في العام 1954 بقيادة القس مارتن لوثر كنج بأنه بعد ستة عقود تقريباً سيكون على رأس الولايات المتحدة الأميركية رجل أسود، في الوقت الذي كانت تكتب على أبواب المطاعم في الجنوب: "ممنوع دخول الكلاب والسود".

أجل، إنها قصة طويلة من النضال الفكري والسياسي، وتراكم تاريخي طويل، وثمن باهظ دفعته هذه الشعوب كي تصل إلى المستوى الذي وصلته. وحركتها إلى الآن ليست متوقفة، وإن كانت تجرى في مسارات سلمية وغير متعجلة وبنقاش مجتمعي يطول فيه الأخذ والرد.

وعلى هذا، فلا نتعجب مما يجري حولنا منذ الربيع العربي، فإرهاصات هذا الربيع قد تطول، وطريق التحول إلى الديمقراطية وعرة، لكن نتائج هذه الإرهاصات حتماً ستكون في صالح شعوبنا.

Email