مصر بين المصالحة وإعلان الحرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبدو مصر فعلا بلد العجائب كما وصفها أبو الطيب المتنبي، وإذا لم تكن كذلك فكيف نصف دعوة الدكتور حازم الببلاوي رئيس مجلس الوزراء لحزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان للاشتراك في الحكومة المؤقتة؟!

بالطبع هي دعوة غريبة، ويمكن تفسيرها على احتمالين لا ثالث لهما، إما أن الدكتور الببلاوي لا يعرف شيئا عن التقاليد الصارمة في السمع والطاعة عند جماعة الإخوان التي عزلها الشعب عن رئاسة الجمهورية، أو أن دعوة الدكتور الببلاوي هي نوع من جبر الخواطر، يثبت بها حسن النوايا في مصالحة وطنية بين الفرقاء، تحت شعار وطني مرفوع: لا إقصاء لأحد عن المشهد العام.

أياً كان السبب، فالمصريون في وضع شائك ومعقد، وأتصور أنه سيستمر وقتا غير قصير، فالمصالحة الوطنية المطلوبة ليست سهلة على الإطلاق، وقد تبدو مستحيلة في المرحلة الراهنة، بالرغم من الدعوات والمبادرات والتحركات والوساطات التي انطلقت في هذا الاتجاه من جهات عديدة، محلية وإقليمية.

وأول سؤال في المصالحة: من هم الأطراف المدعوون إلى مائدة المفاوضات؟!

سؤال صعب حقا، فالمشهد خادع إلى حد بعيد، وقد يتصور البعض أن المقصود بالمصالحة هي جماعة الإخوان والمؤسسة العسكرية، وهذا تصور خاطئ، لأن الأزمة مستعرة ومستعصية على الحل قبل أن يتدخل الجيش لحماية الدولة من الانهيار، كما أن الأزمة الأصلية توسعت قبل 30 يونيو ولم تقتصر على جبهة الإنقاذ في جانب بكل ما تمثله من تيارات مدنية، وجماعة الإخوان الحاكمة في جانب آخر ومعها الداعمون لها من تيارات الإسلام السياسي، وبينهما في المنتصف حزب النور السلفي، وحزب مصر القوية، تتأرجح مواقفهما ذهاباً وإياباً بين الجانبين حسب الأحوال والمصالح، فالنور يتصور نفسه منافسا قويا وقد يكون بديلا للإخوان، والدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح رئيس حزب مصر القوية يواصل سعيه الدؤوب نحو الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وحبذا لو جرت انتخابات رئاسية مبكرة.

 نعم توسعت الأزمة وشملت: مؤسسات وهيئات مهمة كالقضاء والإعلام والمخابرات العامة ورجال الأعمال، ثم انضم إليها تكتلات شعبية هائلة بالملايين نزلت إلى الشوارع في 30 يونيو ليس رفضا فقط للرئيس محمد مرسي وسحب الشرعية منه، بل ضد جماعته كلها بكل ما تمثله من أفكار وتوجهات وفلسفة.

إذن نحن نتحدث عن مجتمع بأغلب أطيافه وتياراته ومؤسساته: أحزاب مدنية، القضاء، الشرطة، الإعلام، والجيش.. الخ، في مواجهة جماعة الإخوان وبعض أحزاب الإسلام السياسي المؤيدة لها.. والأزمة نفسها لم تعد كما كانت قبل 30 يونيو، فقد تبدلت كليا، وأخذت أبعادا جديدة، فهي لم تعد خلافا على نائب عام عينه الرئيس بالمخالفة للتقاليد المعمول بها، أو دستور به مواد مُفخخة يراد تعديلها، ولا حكومة سيئة الأداء مطلوب تغييرها، فقد تجاوز الخلاف هذه النقاط إلى المنصب الأهم في مصر، وهو منصب رئيس الجمهورية، فصار صراعا بين أغلبية عزلت الدكتور محمد مرسي وأقلية تصر على عودته، شرطا لبدء مفاوضات المصالحة.

وعودة مرسي إلى الحكم بالنسبة إلى الإخوان وتيارات الإسلام السياسي مسألة حياة أو موت، قد يصعب إن لم يكن مستحيلا تقديم أي تنازلات بشأنها، خاصة أن العودة تجاوزت حدود مصر إلى كل تيارات الإسلام السياسي في العالم من أول باكستان إلى المغرب، دون أن نغفل دور التنظيم العالمي للإخوان بعلاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا، وهو له مركزان رئيسان في القارة العجوز، الأول في لندن والثاني في هامبورج!

باختصار تحولت الأزمة المصرية من مجرد "حالة داخلية" إلى حالة عالمية، ولهذا لم يكن غريبا أن يصدر شيوخ ورجال دين وعلماء مسلمون بيانات تصطف خلف الجماعة والرئيس المعزول، وتصف ما حدث في مصر بأنه انقلاب عسكري على الشرعية، بل إن هؤلاء قلدوا الجماعة في "العمى المؤقت" الذي أصابها، فلم يروا عشرات الملايين من المعارضين في شوارع مصر وقراها من أسوان إلى الإسكندرية وهي تحمل كارتا أحمر للرئيس مرسي، بالطرد من قصر الرئاسة، ووصفوا عشرات الآلاف من المؤيدين في ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة وعدد من المحافظات بأنهم "الشعب المصري"!

أي شاء حظ مصر أن تدور على أرضها المعركة الحاسمة للإسلام السياسي، معركة تحدد مستقبل مشروعه كله وشكله وتداعياته، والدكتور محمد مرسي مجرد تكأة، أو مبرر القتال، فإذا عاد وهو أمر شبه مستحيل تسترد هذه الجماعات في العالم أجمع قوتها مضاعفة، وتكتسب زخما معنويا يتيح لها الزحف على كراسي الحكم في دول أخرى، وإذا خسرت فسوف تنحسر الأضواء عن المشروع سنوات طويلة ويفقد جاذبيته الشعبية، ويصبح مستقبله مجهولا!

تبقى تفاصيل صغيرة تخص الوضع المصري مثل إعلان قيادات الجماعة الحرب على الجيش والمعارضين، وقد نتج عنه 134 قتيلا وأكثر من ألف مصاب في عشرة أيام، فكيف تجري مصالحة مع أيدي ملوثة بالدم ومطلوبة للعدالة؟! في النهاية تبدو المصالحة في ظل هذا التعقيد نوعا من الأمنيات الرومانسية، ولا فرصة لنجاحها إلا بحسم الصراع على الأرض أولا، والبداية مع الجماعات الجهادية في سيناء!

Email