مُرسي ميتر

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما تسلم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رئاسة مجلس الوزراء مطلع القرن الحالي، بدأ في رسم ملامح أول استراتيجية متكاملة لحكومة دولة الإمارات العربية المتحدة معلناً بدء حقبة جديدة من العمل الاستراتيجي الموجه والمدروس، مشكلاً بذلك إطاراً للعمل الحكومي الذي حدد من خلاله العلاقة بين مختلف المؤسسات.

وتوزعت الأدوار والمسؤوليات ضمن مسارات محددة ليمضي الجميع قدماً وبتناغم شديد نحو تحقيق رؤية واحدة وأهداف مشتركة تحقق رفاهية المواطن، فتحققت بذلك نتائج أبهرت العالم تصدرت من خلالها دولة الإمارات مؤشرات الكفاءة الحكومية، ومؤشرات الترابط الاجتماعي، والقيم والسلوكيات، والأداء الاقتصادي، ومحور ممارسات الأعمال، بالإضافة لإحرازها مركزاً متقدماً ضمن العشر الأوائل عالمياً في التنافسية العالمية.

وفي ماليزيا، سطر التاريخ تجربة مهاتير محمد مطلع ثمانينيات القرن الماضي عندما تسلم رئاسة مجلس الوزراء، وبدأ حينها في رسم أول استراتيجية خمسينية ليبدأ معها بزوغ عهد جديد من النهوض والتطوير الذي قاد معه ماليزيا للتحول من دولة زراعية تعتمد على إنتاج .

وتصدير المواد الأولية إلى دولة صناعية يسهم قطاع الصناعة فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وانخفضت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر من 52 % من اجمالي السكان في السبعينيات، إلى أقل من 5% في عام 2002، كما انخفضت نسبة البطالة إلى أقل من 3%.

وبالرغم من اعتزاله العمل الحكومي، إلا أن بصماته مازالت ذات أثر كبير في توجيه الحكومة الماليزية، وليس أدل من ذلك إلا رؤية 2020 التي أطلق عليها الماليزيون رؤية مهاتير 2020 تقديراً لدوره الاستثنائي في هذا المجال.

وبالمقابل، وفي محاولة متواضعة فقدت معها أبسط مقومات النجاح والاستمرارية، أطلق الرئيس المصري السابق محمد مرسي استراتيجيته ذات الطابع الخاص، البعيدة عن مفهوم الإدارة الاستراتيجية المتكاملة.. فهي أقرب إلى ما يمكن تسميته بالوعود، وحدد من خلالها أكثر من أربعة وسبعين وعداً لتحقيقها على ما يبدو خلال فترة حددها بأول مائة يوم لتوليه مقاليد الحكم.

في الواقع لا يمكن مقارنة هذه الممارسة بالتجارب السابقة والناجحة والاستثنائية بكل المقاييس، ففي كلتا التجربتين يوجد اكتمال لمكونات وعناصر العمل الاستراتيجي الناجح، بينما ما أطلقه محمد مرسي مجرد وعود انتخابية وضعت في قالب استراتيجي من قبل مكتب الرئاسة، يديرها أشخاص من خلف الكواليس.

ويتم تغذيتها بالنتائج والقياسات المتحققة بطريقة غير واضحة أو حتى معلنة، لتفقد بذلك أهم عناصر الإدارة الاستراتيجية الناجحة المتمثلة بالمشاركة والشفافية، فتطوير الاستراتيجيات يحتاج إلى قيادات استثنائية، تقود مجموعة من الفرق المتخصصة، تحلل المتغيرات المحيطة بكل شفافية، وترسم التوجهات لتضع معها أهداف محددة وواضحة، وتحشد معها جهود الجميع نحو تحقيق تلك الأهداف، ومن ثم تقيس مدى التقدم المحقق وتراجع الأداء وتقومه بشكل مستمر بما يضمن تحقيق أفضل النتائج.

كما أن المشاركة تعتبر من الوصفات ذات الأثر الكبير في تطوير وإنجاح الاستراتيجيات.

وهذا مالم تعكسه بشكل واضح وعود محمد مرسي، فمشاركة مختلف الجهات المعنية وخاصة المجتمع المصري لم تكن واضحة أو ذات أثر بالرغم من أن جميع الوعود قد تلامس احتياجاتهم فعلياً، وبذلك فقدت تلك الوعود مصداقيتها، فالمجتمع بطبيعته يفضل أن يكون جزءاً من التخطيط، وليس حقلاً للتجارب أو الوعود، فما لم يشارك في التخطيط له، لن يحظى بالدعم المتوقع منه في مراحل التنفيذ. والمجتمع مهما كان بسيطاً، فذلك لا يعني أن نحرمه من حق المشاركة.

من جانب آخر، ظلت تلك الوعود مرتبطة بمكتب الرئاسة وتدار من خلف الكواليس كما أسلفنا، ولم يتضح دور الطاقم القيادي ممثلاً بمجلس الوزراء وقياداته، ولم تكن الأدوار محددة وواضحة، كما لم ترتبط تلك الوعود بتعديل سياسات أو أنظمة أو حتى مشاريع تطوير للقطاع الحكومي، وظل مكتب الرئاسة يغرد بتلك الوعود بعيداً عن الواقع الذي تعيشه الحكومة.

ويتطلع إليه المجتمع المصري، فالوعود غطّت خمسة جوانب تتعلق بالأمن والمرور والخبز والنظافة والوقود، وأغفلت أغلب عناصر المجالات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الأخرى، ولم تتعاط بجدية مع ما يهدد الأمن القومي الاستراتيجي لمصر مثل المخاطر المهددة لمنسوب المياه.

وفي مجال مراقبة الأداء، أطلقت إحدى الجهات على ما يبدو موقعاً الكترونياً أطلق عليه "مرسي ميتر" بهدف توثيق ومراقبة أداء محمد مرسي وفق ما أقره من وعود، حيث احتوى الموقع على الكثير من البرامج والأنشطة غير المخططة.

وفقدت معها مقومات الترابط والمصداقية، ليتحول الموقع إلى منتدى الكتروني، ويفقد طابعه الرسمي، وتزج فيه البيانات والنتائج والقياسات بشكل عشوائي. وتبقى تلك الوعود التي وعدها محمد مرسي بدون مراقبة أو قياس دقيق، بل فضّل محمد مرسي مراقبة أدائه بنفسه وإثبات إنجازاته علناً على الهواء مباشرة.

عندما ألقى عبر شاشات التلفاز خطاباً يعلن فيه تحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول الأرز من أحد الحقول في ريف مصر الحبيبة، فتناقلت شاشات التلفاز صورة ذلك الحقل الزراعي، ولم يتم الإدلاء بأي معلومات عن حجم أو عدد بقية الحقول الزراعية المزعومة وما المصير المنتظر لزراعة الأرز بعد انخفاض منسوب مياه النيل إذا ما تم تنفيذ السد المشؤوم من قبل دولة إثيوبيا.

مضت المائة يوم التي حددها محمد مرسي لتنفيذ وعوده دون تحقيق المستهدفات، مائة يوم تحققت خلالها عشرة وعود من أصل 74 وعداً، وبلغت نسبة رضا المجتمع عن تلك الوعود 39 %...

 لتبقى تلك التجربة محاولة فقدت معها نفاذ البصيرة والخبرة المطلوبة، فالمجتمع المصري يحوي الكثير من تلك العقول القادرة على تطوير وإدارة استراتيجية متكاملة، وخلق تجربة مؤسسية ناجحة، ولكنها لم تجد تلك الأيادي التي تمتد إليها لتمكنها من المشاركة، ورسم قصة نجاح استثنائية، ليعود قلب الأمة العربية النابض من جديد بضخ دمائه في شرايين الوطن العربي وبقوة، لتعود مصر الحبيبة إلى سابق عهدها، وتبقى كما قال عنها الشيخ زايد، طيب الله ثراه، :"إن مصر بالنسبة للعرب هي القلب، وإذا توقف القلب فلن تكتب للعرب الحياة".

 

Email