الجيش المصري لم يعزل مرسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

نكتة خبيثة وليدة اللحظة، تفسر جانبا مما يجري الآن على أرض مصر، وشر البلية ما يضحك، كما يقولون، فقد سألني صديق رسام كاريكاتير: لو فرضنا مثلا أن أعضاء مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان فروا إلى الخارج، كما حدث عقب صدام 1954 مع الجيش، ثم عادوا بعد عشرين عاما إلى ميدان رابعة العدوية، ماذا سيجدون؟! أجبته: لا أعرف، قال: سيجدون المتظاهرين المؤيدين لمرسي في أماكنهم كما تركوهم بالضبط.. سألته: لماذا؟ أجاب: لأنهم سافروا على عجل قبل أن يُصدروا لهم تعليمات بالمغادرة!

ضحكت وتألمت معا، فالمشهد خليط من متعة التحرر من الكابوس وعذاب الدماء المسالة، فالتغيرات الكبرى في أي مجتمع، تصاحبها دوما عمليات جراحية مؤلمة دون مخدر، هي العنف المتبادل، بسبب اختلافات سياسية ألبسها المنافقون أقنعة الدين الحنيف.

المدهش أني صادفت النكتة على أرض الواقع في اليوم التالي.. فلي صديق خاله من الجماعة، وأمضى أربعة أيام متتالية في ميدان رابعة العدوية، وقلقت عليه زوجته وأولاده، فكلمه صديقي على هاتفه المحمول، وقال له: «يا خال.. تعالى البيت.. اغتسل وارتاح ثم عاود الذهاب إلى الميدان، فرد عليه بتلقائية: لم تأتنا تعليمات بذلك»!

هذه هي كارثة الصدام الحادث في مصر الآن، فالطرف الأصيل فيه يتحرك بالريموت كونترول، كما لو أن أعضاءه نماذج متكررة من إنسان آلي مصنع في ورش جماعة الإخوان؛ يتحدث، يتصرف، يتحرك، يهدأ ويثور، حسب الأوامر المعطاة.

والأوامر المعطاة حاليا هي إعلان الحرب على المصريين، من أجل أن تسترد الجماعة قصر الرئاسة المصرية، في هيئة الرئيس محمد مرسي، الذي وصفه المرشد العام في خطاب إعلان الحرب من رابعة العدوية يوم الجمعة الماضي بأنه: «رئيسي ورئيسكم ورئيس كل المصريين»، مع أن أغلبية المصريين فاضوا إلى الشوارع والميادين في مدن المحافظات وقراها، ليقولوا له: نأسف.. فسخنا عقد شرعية صندوق الانتخابات معك، وليس بمقدورنا أن نتحمل ثلاث سنوات أخرى حتى نعزلك في انتخابات تقليدية!

وكما الإنسان الآلي يتحرك وفق تعليمات، سواء صالحة أو طالحة، لانعدام قدرته على التفكير الحر خارج صندوق الأوامر، راح مكتب إرشاد الجماعة وكتائبها الإلكترونية وأعضاء العلاقات الخارجية في التنظيم الدولي للجماعة، في إطلاق قذائف من الأكاذيب الموجهة، تصف ما حدث في مصر بأنه انقلاب عسكري على الشرعية الدستورية، وأنه صدام مع المؤسسة العسكرية، كالصدام الذي حدث في عام 1954، ونتج عنه إقصاء الجماعة عن المشهد السياسي ما يقرب من ربع قرن!

بل إن عددا من الكتاب الإسلاميين أخذوا على عاتقهم تفسير وفضح هذا الانقلاب، دون أن يلاحظوا الفوارق الهائلة في المشهد المصري عن مشاهد الانقلابات العسكرية، سواء التي وقعت في عالمنا العربي أو في أميركا اللاتينية وبعض دول إفريقيا.

وبالفعل.. الفوارق هائلة ويكاد المشهد المصري أن يكون مختلفا تماما، إلا في وجود الزي العسكري في خلفيته وموسيقاه التصويرية.

أولا: الجيش المصري لم يعزل الرئيس محمد مرسي من الحكم، فالذي عزله هو الشعب المصري، في تظاهرة هي الأضخم في تاريخ البشرية منذ عرفت التجمعات المتمردة والرافضة لأمر ما، والجيش المصري فقط نفذ قرار العزل الشعبي.. لأنه المؤسسة الوحيدة في الدولة القادرة على تنفيذ قرار الشعب.. وقد صنع المصريون البسطاء في المحافظات مشاهد في غاية الروعة، للتعبير عن رفضهم للرئيس محمد مرسي، لم ترصدها كاميرات التلفزيون المشغولة بالقاهرة والإسكندرية. فمثلا، فلاحو مركز المنصورة في الدقهلية تظاهروا بجرارات الحرث، وتجمهروا بها أمام مبنى المحافظة، بعد أن فشلوا في العثور على وسيلة انتقال.. وهكذا في أماكن كثيرة.

ثانيا: لا وجه للمقارنة بين ما حدث في يونيو 2013 ومارس 1954، فالجيش في تظاهرات يونيو لم يكن طرفا مباشرا في الصراع السياسي على السلطة، فالصراع كان بين جماعة الإخوان والتيارات الدينية الداعمة لها، وبقية الشعب المصري، بينما الصراع في 1954 كان بين الجماعة والجيش وجها لوجه، والشعب يراقب وينحاز إلى الجيش في ما اتخذه من إجراءات حادة ضد الجماعة.

ثالثا: صراع الجماعة دوما كان مع الدولة المصرية وليس مع المؤسسة العسكرية، بدليل أنه بدأ قبل ثورة 1952 بسنوات، ووصل إلى ذروته في عام 1948، باغتيال محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء حينذاك، وقد وصف المؤرخ الشهير عبد الرحمن الرافعي هذه الفترة فقال: «إن العنف في هذه الجماعة كان يرمي من غير شك إلى أن يؤول إليها الحكم، ولعلهم استبطأوا طريقة إعداد الرأي العام لتحقيق هذه الغاية عن طريق الانتخاب، فرأوا أن القوة هي السبيل إلى إدراك غايتهم».

في ذلك الوقت كان حزب الوفد هو السيد الشعبي في الانتخابات.

إذن.. الصراع قديم، وقبل أن تظهر المؤسسة العسكرية في الصورة وتصل للحكم.. والدماء المسالة حالياً مجرد فصل جديد فيه.

Email