السلطة السورية.. خطأ يقود إلى خطأ

ت + ت - الحجم الطبيعي

انتقلت السياسة السورية الرسمية خلال العامين الماضيين من خطأ إلى خطأ، وكان كل خطأ يقود إلى خطأ أكبر وأفدح، ولولا هذه الأخطاء لكان بالإمكان حل الأزمة منذ بدايتها، واحتواؤها والوصول إلى نتائج إيجابية قادرة على تجنيب الشعب السوري الكارثة التي حلت به.

لقد تراكمت أخطاء السياسة السورية تجاه الأزمة والثورة خطأ فوق خطأ، حتى غدا من الصعب حل تعقيداتها.

بعد أن كان الأمر يمكن أن يجد حلاً بمبادرات بسيطة، لو تم فهم ظروف التطور في المنطقة وفي العالم، وعدم الوقوع في الأخطاء الفادحة التي ارتكبها أهل النظام خلال عقود مارسوا فيها إجراءات خاطئة، لا تمارسها في الواقع سياسة متوازنة ومسؤولة وعاقلة تجاه الوطن والشعب.

فقد كانت السياسة السورية تنحو نحو الحلول الاستعراضية، والمغامرة التي لا تخلو من "الفهلوة والتشاطر" اللتين اشتهر بهما النظام السوري، والغوص في ألاعيب التكتيك دون رؤية استراتيجية.

وقد خضعت هذه السياسة الحمقاء إلى آراء ومطالب وضغوط رؤوس الفساد في سوريا، وأمراء النهب والسلب من مال الشعب السوري، وآراء قادة أجهزة الأمن الذين لا يرون أبعد من أنوفهم، وبعض السياسيين "جديدي الصنعة" والمصابين بالعمى، ولذلك كانت تصلح الخطأ بخطأ آخر وبالهروب إلى الأمام.

عندما انطلقت الثورة السورية طالب الحراك المجتمعي بمطالب بسيطة أقل من الحد الأدنى لحقوقه، وفي الوقت نفسه نادى بسلميته (أي بسلمية الحراك) وبوحدة الشعب السوري، وقد تمثلت مطالبه بالكرامة والمساواة وبعض الحرية، ورفع بطش أجهزة الأمن عن الشعب ومواجهة الفساد.

وكان بالإمكان أن تدعو السلطة، لحل المشكلة، إلى مؤتمر سوري داخلي يضم ممثلين عن مختلف الفئات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السورية، مهمته عرض الواقع القائم في البلاد، ودراسة الشكاوى والنواقص والأخطاء وتلمس الحلول.

وبدلاً من الدعوة لمثل هذا المؤتمر، أعلنت السلطة السورية أن الحراك هو نتيجة تدخل أجنبي، يقوم به مندسون وعملاء للخارج ومتطرفون ومسلحون ومعادون للمانعة، وعرضت صوراً مزورة لصناديق سلاح زعمت أنها وجدتها في الجامع العمري في درعا، ولأكداس من الدولارات قالت إنها دخلت لرشوة هؤلاء المندسين والمتآمرين، وكانت خطيئة كبرى من النظام الذي لم يدرك حينها أبعاد ذلك الحراك واحتمالات تطوراته المستقبلية.

 وعلى التوازي وبسبب اتهامات النظام هذه ورفضه الحوار، رفع الحراك الشعبي السوري مطالبه، وأخذ يدعو لإسقاط النظام السياسي برمته.

ولعل رفع المطالب هذا، هو الذي أغرى السلطة بارتكاب خطأ فادح آخر، هو استخدام العنف ورفع وتيرته واستسهاله ضد الحراك المجتمعي والشعبي، رغم التحذيرات العديدة التي قالت بها فصائل المعارضة.

ومع ذلك تحمل الحراك الشعبي السوري ستة أشهر (هي الأشهر الأولى) من العنف والقتل وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وكانت قوى المعارضة تنادي بوقف العنف وتؤكد أن الحل سياسي وليس عنفياً، ولكن السياسة السورية أخذتها العزة بالإثم، ورفعت مستوى العنف من جديد، فزجت بالجيش في المواجهة وأعطته الحق في قصف المدنيين بالمدفعية والدبابات، ثم فيما بعد بالطيران، وسالت دماء غزيرة.

ولذلك رفع الحراك مطالبه مجدداً، فوصلت إلى تنحية الرئيس حتى لو كان ذلك بالتدخل العسكري الأجنبي، ولم تعد إمكانية الوصول إلى حل سياسي سهلة المنال.

قاد هذا إلى خطأ آخر هو استدعاء النظام (أو قبوله) تدخل قوات إيرانية وقوات من حزب الله ومتطوعين عراقيين في الصراع القائم بينه وبين شعبه، وشكل هذا القرار خطأ كارثياً، ذلك أنه قرب الصراع أكثر فأكثر إلى الصراع الطائفي، وهذا ما كان النظام يعمل له في الواقع وينادي به ويتمناه منذ بدء الثورة، وكان الشعب السوري يرفضه رفضاً مطلقاً ويؤكد على وحدته بكل فئاته ووحدة مصالحه.

وقد تنامت الأحقاد الطائفية بعد هذا التدخل، وسالت دماء غزيرة نتيجة هذه الهجمة الطائفية، التي لا تفسير سياسياً لها سوى أنها تدخل طائفي مكشوف وأحمق ستكون نتائجه مدمرة، وربما ستعاني الأقليات الإسلامية السورية غير السّنية من هذه النتائج لعقود طويلة قادمة، فليس من السهل إزالة الحقد الذي سببه هذا الخطأ، وربما سيعاني الشيعة في لبنان أيضاً لعقود قادمة معاناة شديدة من عداء شرائح واسعة من السوريين واللبنانيين لهم، إضافة إلى أن هذا الخطأ قاد إلى دفن مرجعية المواطنة في سوريا وتخريب النسيج الاجتماعي السوري، ولذلك ربما يحتاج الشعب السوري بدوره عقوداً لإصلاح هذا الخلل الوطني.

هكذا انتقلت السياسة السورية من خطأ إلى خطأ، وفوتت فرصاً كان بإمكانها المساهمة في منع تطور الأمور إلى ما وصلت إليه الآن، فمن المرجح أنه لو قبلت السياسة السورية التشاور والحوار مع فصائل المجتمع السوري وحراكها الشعبي، وأقرت مبدأ إصلاح النظام جدياً، والاستجابة لمطالب الشعب، وخاصة ما يتعلق بتحقيق الكرامة ورفع يد أجهزة الأمن الظالمة عن رقاب الناس، ومحاربة الفاسدين والعمل بمبدأ تكافؤ الفرص والعدالة والمساواة، لو قبلت السلطة والنظام بذلك فلا شك أن الجميع كانوا سيصلون إلى حلول تجنبهم وتجنب سوريا ما حصل فيها.

يبقى أن الخطأ الأشمل والأسبق، هو أن السلطة السياسية السورية لم تكن تدرك (وأظنها لا تدرك حتى الآن) التحولات الجدية في عالم اليوم، وضرورة بناء دولة بمعايير حديثة، ولم تقتنع باستحالة استمرار الأنظمة الشمولية والفساد والدولة الأمنية، وبالتالي لا بد من الإصلاح.

ولهذا وقعت في ما وقعت فيه من أخطاء، أدت إلى كوارث ستلقي بظلالها على مستقبل سوريا خلال العقود المقبلة، وربما حتى نهاية هذا القرن.

Email