المُلك عقيم

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مطلع القرن التاسع عشر، تولى محمد علي باشا ولاية مصر بـ "فرمان" من الخليفة العثماني، وكان المماليك هم الحكام الفعليون لمصر، بما يملكون من عقارات وأراض زراعية ونفوذ وتاريخ طويل من الحكم والسلطة، ولم يكن للوالي سوى سلطة شكلية، وربما كان عملياً أضعف من أي مملوك إقطاعي، رغم أنه من المفروض أن تكون سلطته أقوى من أي قوة في مصر. وأراد محمد علي باشا أن يستعيد سلطة الوالي التي تآكلت لحساب المماليك، فدبر مؤامرة مع حراسه وقواته العسكرية، مفادها أن يقيم عشاء لأهم مماليك مصر في القلعة، ويحتال حرسه عليهم بتسليم سلاحهم عند الدخول، ثم في وقت مناسب، يقوم حرسه وعساكره بقتلهم جميعاً.

وعندما حان الوقت، أشار إلى كبير حراسه ببدء المذبحة، إلا أن هذا اقترب منه، وقال له إن إبراهيم بينهم، وأخشى أن يصيبه سوء (وإبراهيم هو الابن الأهم لمحمد علي، وكان يعده لقيادة جيوشه)، فبادره الباشا قائلاً: ومن هو إبراهيم، قال له: ابنك، فأجابه: "ليس لي ابن، فالمُلك عقيم، أتمم مهمتك".. وهكذا كان، وحصلت مذبحة المماليك في القلعة، ونجا إبراهيم، وصار محمد علي باشا بعدها الحاكم الفعلي لمصر، وآل الحكم لأبنائه من بعده وصولاً إلى الملك فاروق، الذي خلعته ثورة يوليو.

وعندما ضربت جيوش يزيد بن معاوية، وبعدها بعدة عقود جيوش عبد الملك بن مروان، مكة المكرمة بالمنجنيق واستباحت المدينة ومكة، واغتصبت النساء وانتهكت الحرمات، قيل لكل من الخليفتين، في مقره الدمشقي، إن سكان مكة وقسماً من المدينة هم أهلكم وأقرباؤكم، فأنتم أولى بالدفاع عنهم، لا هتك أعراضهم وتدمير بيوتهم، فأجاب كل منهما، رغم تباعد الزمن بينهما، الإجابة نفسها: إن الملك هو الأهم، ولم يهتما إن كان سكان المدينتين المحرمتين أقرباءهم أم لا.

أول من قال إن المُلك عقيم، هو الخليفة العباسي هارون الرشيد، بمناسبة مشهورة، هي أنه شاهد وابنه المأمون في أحد السجون، جعفر الصادق، الذي سجنه أبو جعفر المنصور، وكان جعفر يلبس الأسود ويصلي، فسأل الرشيد الحارس عن اسم هذا الملتحف بالسواد، فأجابه إنه جعفر بن محمد الباقر، وهو يقوم الليل ويصوم النهار، فامتدحه الرشيد.

وأشار إلى أنه ابن عمه ومن أهله ومن الدوحة النبوية الشريفة، وتحدث عن علمه وفقهه وأحقيته بأشياء كثيرة، ثم طلبه إلى مجلسه في اليوم التالي، وأقعده على كرسي أعلى من كرسيه، وكال له المديح. وبعد أن اختلى المأمون بأبيه الرشيد سأله عن هذا الذي امتدحه بالأمس، وفضله اليوم في مقامه على نفسه، وأجلسه على كرسي أعلى من كرسيه، وأقر بأحقيته بالملك، وقال المأمون لأبيه: ما دام الأمر كذلك، والرجل من الدوحة النبوية، وعالم ومحق بادعائه، فلماذا لا تسلمه الملك؟ فأجابه الرشيد: أما هذه، فلو حاولت أنت أن تأخذ الملك مني، لأخذت من يحمل عينيك، أي لقطعت رأسك، فالمُلك عقيم يا ولدي.

بعد وفاة الرشيد، اختلف ابناه الأمين (الأكبر)، والمأمون (الأصغر)، على وراثة العرش، ثم تحاربا، فهُزم الأمين، وقبض أخوه عليه بعد يومين وأعدمه، رغم أن مرافقي الأمين ومستشاريه وغيرهم من وجهاء القوم، توقعوا أن يعفو عنه أو يسجنه أو ينزل به عقوبة خفيفة، احتراماً لحق الأخوة وحق الرحم، لكن المأمون تذكر قولة أبيه الرشيد إن المُلك عقيم، أي لا أقرباء له، وليست له ذرية، فقتل أخاه.

يشهد التاريخ العربي والإسلامي، على تطبيق هذه المقولة فعلياً منذ ما بعد عهد الخلافة الراشدة حتى نهاية الدولة العثمانية، وقد أحصى أحد المؤرخين أكثر من مئة حاكم لولاية أو إمارة أو دولة مركزية، قُتلوا من قبل أقربائهم (الإخوة وأبناء العمومة)، بسبب الصراع على الملك، وجميعهم كان يعتبر أن الملك عقيم، ويتصرف مع قريبه كتصرفه مع الغريب.

ومن اللافت أن سيدة كانت والدة حاكم، قتلت ابنها هذا ليخلفه ابنها الثاني الذي تحبه أكثر، هذا فضلاً عن سمل العيون، أو قطع المعونة، وترك الحاكم بعد عزله يستجدي لقمة الخبز.. وبالإجمال، يؤكد تاريخنا العربي، وتاريخ المسلمين، أن مقولة "الملك عقيم" مورست طوال هذا التاريخ، بقسوة أحياناً، وهمجية أحياناً أخرى.

عند دراسة هذه الظاهرة والبحث عن أسبابها، نجد أنها تمارس غالباً من قبل الأنظمة الاستبدادية، حيث تغيب المؤسسات، كما تغيب الشراكة في الحكم بين شرائح المجتمع، وتنتفي التعددية، ويصبح الحاكم حاكماً بأمره، في يده كل السلطات، لا يترك متنفساً لا للمشاركة ولا للتشاور ولا حتى لتعدد جهات اتخاذ القرار، ويغرق في الاستبداد.

ويتبع أهواءه ورغباته، ويرفض أي مشورة أو رأي مخالف، ويستحوذ على أموال الناس وحياتهم ومقدراتهم، ولا يجد الآخرون عندها بداً من تغييره بالعنف للخلاص من ديكتاتوريته. إن ظاهرة اعتبار أن "الملك عقيم"، هي ظاهرة سياسية اجتماعية اقتصادية نفسية، لها شروطها الموضوعية، ونادراً ما تكون نتيجة هوى أو رغبة فقط، فلولا تلك الظروف المناسبة لما وجدت هذه الظاهرة، ولما كان المُلك عقيماً.

 

Email