ثمة ما يدنو من الغرابة حين يقرأ المشهد العراقي الحالي، والذين عاينوا وقائع الأسابيع الماضية، وجدوا خليطاً عجيباً بين ممارستين سياسيتين في غاية التناقض: ديمقراطية شعبية عكستها انتخابات مجالس المحافظات، وعنف أهلي يزرع البلاد موتاً ودماراً، وينذر بتفتيتها. ومع ذلك لا يفتأ الكلام على المفارقة العراقية مهماً واستثنائياً في دوائر التفكير الاستراتيجي، ولا سيما لجهة ما تنطوي عليه موقعية هذا البلد في المجالين الإقليمي والدولي.

إنّ ما تشي به "الجيولوجيا السياسية العربية" من تداعيات وآثار، سيكون من شأنه أن يضاعف حيوية الرهان السيادي للنخبة العراقية، ولا سيما إذا عرفنا أن الإقليم، فضلاً عن العالم، بدأ يشهد تراجعاً بيِّناً للأحادية القطبية وتحكمها في قرارات الحرب والسلم والاقتصاد وأنظمة القيم.

وليست مصادفة أن يتزامن الانسحاب من العراق مع انكفاء الأحادية القطبية، فمثل هذا التزامن يترجم المنطق الداخلي للتّحولات التي عصفت بأميركا مع حقبة المحافظين الجدد، وما تركته هذه الحقبة من نتائج قلقة على مهمة ودور أميركا في العالم.

الأسئلة المطروحة على أميركا اليوم كبيرة وخطيرة، بقدر ما هي طبيعية، فالدولة التي أحرزت نصراً مدوّياً على المؤسسة الشيوعية في شرق أوروبا، لا يسعها إلّا أن تملأ الفراغ الذي أحدثه مثل هذا الانتصار، على النطاق العالمي ككلّ. غير أن ملء الفراغ نفسه، فكرة تبعث على الحيرة والقلق واستيلاد الأسئلة وإشارات الاستفهام، ذلك أنّ الأمر يتعلق بشروط التكيُّف مع الواقع العالمي الجديد، وهي شروط تُوجب قبل كل شيء الاعتراف بأنّ النصر كالهزيمة له ثمن، وغالباً ما يكون ثمنُه باهظاً، إذ على المنتصر أن يفي بضريبة تتصاعد باستمرار، كلّما كان له وحده الأمر والنهي في تشكيل، أو إعادة تشكيل، منظومة العلاقات الدولية.

الهواجس التي تمكث النخب الأميركية ضمن دوائرها، تتصل عموماً بالمهمة التي على الولايات المتّحدة أن تؤديها، إزاء نفسها وإزاء العالم في آن. وفي الهواجس تساؤلات لم يُجَب عنها بعد: كيف يمكن لأميركا أن تقود العالم؟ وكيف يمكنها القبول بعالم متعدد الأقطاب؟ ثم كيف لها أن تتكيَّف وشروط زعامتها الدولية، في عالم زاخر بالتناقضات واللّايَقين ومناخ عالمي مملوء بركام هائل من النزاعات، والعصبيات الإيديولوجية، وكذلك الفوضى العارمة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والأمن؟

ليس من اليسير بلوغ أجوبة وافية، عن أسئلة وتساؤلات من هذا النوع. حتى رموز الفكر السياسي الأميركي، سواء الذين في السلطة بصفة مستشارين للرئيس أو الذين يعملون بصفة شبه رسمية في مراكز التخطيط الاستراتيجي، غير متّفقين في الغالب على سياق واحد من الأجوبة والاحتمالات.

بين هؤلاء وأولئك، المتشائم الذي لا يرى لمقبل الدولة الأميركية إلّا ما توقّعه لها المفكّر الاقتصادي بول كينيدي قبل بضع سنوات، في كتابه "صعود وسقوط القوى الكبرى"، وفيه أنّ الإمبراطورية تنهار بعد أن تتعاظم وتقوى، حينما تجاوز التزاماتها حدود قدراتها.

وفي تقدير أنصار هذا الرأي، أنَّ الولايات المتّحدة الأميركية اليوم، هي تمثيل نموذجي لنظرية كينيدي، وحجّتهم في ذلك أنّ أميركا سارت في طريق الانحدار، بعدما أصبحت تستنزف نفسها في التزامات عسكرية واقتصادية وسياسية واسعة فوق طاقتها.. إنه الطريق نفسه الذي سلكته من قبل الإمبراطوريات الإسبانية والفرنسية والبريطانية والروسية والعثمانية، ثم آلت إلى الاضمحلال.

ولنا أن نستذكر يوماً ليس ببعيد، ويدلّ على الدرجة القياسية التي أظهرها الخطّ البياني في صعود أميركا وانكفائها خلال العقدين المنصرمين. فقد أعلن عن غزو العراق بالترافق مع الكشف عن استراتيجية إدارة بوش للأمن القومي، التي شاعت تحت عبارة "الاستراتيجية الإمبريالية الكبرى الجديدة".

مؤدّى هذه الاستراتيجية كما هو معروف: عزم الولايات المتّحدة الأميركية على السيطرة على العالم، وتدمير أي تحدٍّ محتمل لهذه السيطرة، والسماح للأمم المتحدة بأن تكون ذات صلة بها إن هي أقرّت بمضامينها أو العمل بها، وأن يكون غزو العراق هو الاختبار الأوّل للمبدأ الجديد لاستراتيجية الأمن القومي، القائم على الضربات الاستباقية.

الاستراتيجية إياها، سيطلق عليها المفكّر الفرنسي ف. ب. هويغيه عبارة "الجنون الاستراتيجي". وهذه العبارة هي المعنى الموازي لما أطلق عليه "الحرب الاستباقية" أو "الحرب اللامتكافئة".

لكن مهما كانت تسميتها، فالثابت أنها حرب وُلِدت على أرض العراق، وكانت محمّلة بتغطية فكرية وإعلامية واسعة النطاق، عنوانها العام "الحرب ضد الإرهاب". ووفق مبدأ الضربة الاستباقية، يُفترض أن تؤدي هذه الاستراتيجية المجنونة -بحسب هويغيه- وظيفة مثلّثة الأبعاد:

أولاً؛ استراتيجية ومادية، تقوم على حرمان الخصم من قواه قبل أن يتمكن من الوصول الى الولايات المتّحدة، وذلك عبر تدمير قواعده الخلفية.

ثانياً؛ رمزية وردعية، توجيه رسالة قوية للإرهابيين والدكتاتوريين لإحباط مشاريعهم ومنع انتشارها، بالخوف من القوة العظمى.

ثالثاً؛ أيديولوجية وسياسية، وخلاصتها نشر الديمقراطية في العالم، أو ما يسمى بالحكم الصالح. ذلك يعني كما يبيِّن الخبراء- أنّ ترويع أعداء أميركا ليس سوى مقدّمة لنشر الحكم الصالح في الكرة الأرضية كلّها، وتعميم ثقافة السوق وحقوق الإنسان. فالمشروع يهدف وفق التعبير المعتمد، إلى جعل العالم مكاناً أكثر أماناً للديمقراطية، وهذا يعني بشكل خاص آمناً للولايات المتحدة.

وقد كانت هذه الاستراتيجية تنتظر في أدراج المحافظين الجدد طيلة أكثر من عقد من الزمن قبل وصولهم الى السلطة، وهي في جوهرها تطابق ما سبق للفيلسوفة الألمانية- الأميركية حنّا أرندت hannah arendt، أن نظّرت له خلال حرب فيتنام: "يجب أن نجعل من عرض صورة معينة قاعدة لسياسة شاملة، ونعمل ليس على غزو العالم، بل على التفوُّق في معركة تستهدف عقول الناس، وهذا شيء جديد وسط هذا الكم الهائل من الجنون البشري الذي سجّله التاريخ".

لم يؤدِّ التنظير الأميركي على هذا النحو، الى إعادة إنتاج الفضاء العالمي على نصاب الهيمنة الشاملة. فمن المختبر العراقي ستبدأ إرهاصات المراجعة الجذرية لحصاد التورط المجنون، الذي بدأت وقائعه المعاصرة بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001.

تأسيساً على تصوّرٍ كهذا، يستطيع العراق أن يتّخذ لنفسه منطقة وسطى داخل فوضى الاستقطاب، دون أن يعني ذلك اعتماد سياسة الحياد السلبي في القضايا ذات الطابع المصيري للمنطقة.