القتل الوحشي والتمثيل بالآخر

ت + ت - الحجم الطبيعي

حدثت في الصراع العسكري في سوريا خلال السنتين الماضيتين، أعمال وممارسات تخالف كلياً، ليس حقوق الإنسان التي أقرتها الشرائع الدولية فقط، ولا قوانين الأمم المتحدة المتعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية فحسب، وإنما أيضاً تخالف تعاليم الإسلام وشريعته وما جاء به الفقهاء، وبالتالي، فإن هذه الممارسات تدل على جهل بالدين، وتخلف بالمحاكمة والعقل، وحقد لا مبرر له، وتعصب ينقاد للغرائز أكثر من انقياده للعقل، ويتخذها مرجعيته على حساب العقلانية والتصرفات الإنسانية والمرجعية الدينية ومعايير الثقافة القديمة والحديثة، وفي الوقت نفسه، الإساءة لتقاليد الأمة وثقافتها، وتشويه سمعتها في العالم كله.

لقد ارتكبت قوات السلطة السورية، كما ارتكب بعض قوات المعارضة المسلحة، وبدرجات متفاوتة طبعاً، جرائم قتل وحشي موصوفة لا شك فيها، ولا مبرر لها في أي ثقافة أو قوانين أو مرجعية، مثل القتل بالسلاح الأبيض، وقطع الرؤوس، والتمثيل بالجثث، والإعدام دون محاكمة، لا جدية ولا هزلية (يسمونها ميدانية)، وإلقاء براميل المتفجرات من الطائرات على المدنيين، وقصف قرية قصفاً عنيفاً ومدمراً لمعاقبة مسلح واحد لجأ إليها، وقطع الماء ومنع وصول الطعام والأدوية للسكان، وقتل الأطباء الذين يعالجون الجرحى من الطرف الآخر.. وما هذه سوى نماذج أو أمثلة تمت ممارستها بكثافة.

وقد أربكت هذه الجرائم دراسات الدارسين، ومفاهيم المختصين النفسيين والاجتماعيين، وهم يبحثون عن أسبابها، ويحاولون تقييمها ومعرفة مبرراتها وأبعادها ونتائجها.

وقد أرجع بعض الدارسين الأسباب للتعصب الأيديولوجي الذي أعمى البصائر، وجعل الإنسان ينقاد لأحقاده وغرائزه، لأن هذا التعصب (وكل تعصب) يقود إلى الحقد، ويلغي العقل، ويجعل الإنسان يستسلم للغرائز، ويبرر لمن ابتلي به أي عمل قاس وشاذ ووحشي وخارج عن القيم والتقاليد، سواء في الخلافات الشخصية أم في الحروب أم في غيرها.

وعادة ما يقود الحقد إلى حقد مقابل، وتقود الجريمة إلى الثأر، ويسبب الثأر ثأراً جديداً في متتالية لولبية متصاعدة، وهذا ما شهدناه في آخر جرائم القتل الوحشية التي ارتكبت في بلدة البيضا، مما يندى له الجبين، ويخرج عن التقاليد الإسلامية، وحتى القبلية التي كانت في مجتمعاتنا العربية قبل مئات السنين.

 شهدنا خلال الثمانية عشر شهراً الماضية، عشرات صور الفيديو، التي تعرض قوات أمن تعذب معتقلين تعذيباً شديداً، وأفاد عديدون ممن كانوا تحت التعذيب، أن الجلاد لم يكن يعرف حتى أسماءهم، وبديهي أن الطيار الذي يقصف البلدات ويقتل الأطفال والنساء لا يعرف أسماءهم، لكنه يعرف نتائج أعماله على حياة هؤلاء.

عندما تم تجهيز جيش زيد بن حارثة للانطلاق من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام فاتحاً، قبل قرابة 1400 عام، أوصى أبو بكر الصديق رجال الجيش قائلاً «لا تخونوا ولا تغُلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له».. ولدى المقارنة مع ممارسات جنود الجيش النظامي السوري أساساً، وبعض المسلحين الآخرين، نلاحظ أنها (أي الممارسات)، تخالف بالمطلق وصية أبي بكر.

فقد مورس الغدر في الصراع السوري، وكذلك التمثيل وقتل الأطفال والنساء والشيوخ الكبار، وقطعت الأشجار عمداً لئلا يختبئ خلفها المسلحون، وقتلت الحيوانات بلا سبب، واختُطف رجال الدين (وبعضهم مع الثورة)، وارتُكبت كبائر لا حصر لها، كاغتصاب النساء والرجال أيضاً، والقتل من أجل القتل، وتدمير بيوت المسالمين الآمنين، وقصف الناس عن بعد دون تمييز، هذا إضافة إلى الابتزاز والسرقة وتدمير عزة النفس لدى الآخر وتقصّد إذلاله، كاغتصاب زوجته أمام عينيه، أو اغتصاب الفتاة أمام أخيها وتعذيبها.. وغير ذلك من الكبائر.

كشف الصراع في سوريا عن وجوه أخرى من التعصب والحقد وكره الآخر الموجودة في عمق الثقافة السورية، والتي لم يكن أحد يلاحظها أو يتوقعها أو حتى يفترضها.. فقد حدثت خلال هذا الصراع أعمال وممارسات ما تصور أحد إمكانية حدوثها في سوريا، وممارستها من قبل شعب تجاوز عمر حضارته خمسة آلاف عام، عاش خلالها الحوار مع الآخر، وتمثل ثقافته وأغنى حضارته، وأشاد حضارة فكرية هامة ساهمت في تأسيس الحضارة الإنسانية اللاحقة، وفي إقامة بناء فلسفي (مشرقي) شامخ لا يقل عن البناء الفلسفي الهيليني، وشبكة من القيم والأساطير كانت (وما زالت) تعبر عن موقف الإنسان عامة من الكون والحياة، وبناء عمراني هائل، ثم تمم ثقافته وأغناها باعتناق الإسلام وفلسفته، بعد أن تمثل الدين الجديد، وقاد الثقافة والحضارة الإنسانية طوال قرن على الأقل (في العهد الأموي) ثم في العصر الوسيط.

لعل الحقد الشخصي والأيديولوجي والسياسي وكره الآخر، هي من أسباب هذه الجرائم كلها، ويحزن المرء عندما يرى أو يسمع أن هناك من يُمارس فظاعات نهى عنها الإسلام، والقيم والتقاليد العربية والإنسانية، قبل ألف وأربعمئة عام، وها هي تمارس الآن، والبشرية في مراحل حضارية متطورة جداً!.

Email