الحلقة المفقودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الواقع، إن الحلقة المفقودة في العملية الابتكارية في مجتمعنا هي الابتكار عينه. ودعوني أشرح ما أقصده.

في شهر أبريل الماضي زرت معرض "بالعلوم نفكر"، الذي احتضنه مركز دبي التجاري، تحت رعاية سمو الشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية، وتنظيم مؤسسة الإمارات لتنمية الشباب. المعرض قدم أفكاراً إبداعية من بنات أفكار طلبة وطالبات الثانوية العامة وبعض الجامعات. بلغ عدد الأفكار المعروضة والمجسمة 157 فكرة متنوعة، توزعت بين مجالات الكيمياء والفيزياء والهندسة والتكنولوجيا والبيئة والطاقة وأنظمة الأمان والنقل والصناعة.

كان منظر العارضين مبهراً. وكنت عندما أستمع لفتى أو فتاة وهو يعرض فكرته أو فكرتها، أرى فيهم طاقات تتفجر، واستعداداً تاماً للعمل لتطوير أفكارهم بما يفيد المجتمع. كان يحدوهم طموح بلا حدود، ولهفة لا تخطئها العين في أن يتلقف أحد الحضور فكرتهم ويتبناها ويظهرها إلى الوجود. وفي الوقت نفسه، كان يساورهم ذلك الإحساس المشوب بالخوف، بأن أفكارهم التي بذلوا الوقت والجهد في سبيل بلورتها وإخراجها إلى الوجود سوف تذهب أدراج الرياح، بمجرد أن يغلق المعرض أبوابه. وهو ـ للأسف ـ ما حدث بالفعل.

وعندما غادرت المعرض كنت نهباً لأحاسيس شتّى: فمن جهة كنت مسروراً بما وقفت عليه لدى شبابنا من إمكانات وطاقات. ولكن في الوقت نفسه، كان يساورني شيء من الإحباط، حين أحسست بنفسي عاجزاً عن تقديم شيء يذكر لحماية أفكار هؤلاء الشباب من الضياع، وللمساهمة في تكملة الحلقة المفقودة. شيء أكبر من مجرد الإعجاب. من هنا، آمل أن يسهم هذا المقال، ولو بقدر ضئيل، في إيجاد الدعم لإبداعات شبابنا.

دعونا ـ بدءاً ـ نتحدث عن عناصر العملية الابتكارية. العملية الابتكارية في أي مجتمع تتكون من أفكار وفرص، ومن ثم أفراد يستغلون تلك الأفكار والفرص ويبلورونها عن طريق الإبداع أو الاختراع، ثم يأتي بعد ذلك تطويرها وتسخيرها لفائدة المجتمع عن طريق الابتكار.

والواقع أنني لاحظت الكثير من الأفراد لا يميزون الفرق بين هذه المصطلحات. وكثير منهم، وإن أدرك تعريفاتها باللغة الإنجليزية، فهو لا يستطيع التفريق بين هذه التعريفات باللغة العربية. وهم في هذا غير ملومين، حيث إن استخدام هذه المصطلحات في مجتمعنا العربي قد اختفي عندما اختفت منه بيئة الابتكار.

وأردت أن أستهل هذا المقال بترجمة هذه المصطلحات إلى العربية، وهي مصطلحات مبذولة في الكتب الجامعية المكتوبة باللغة الإنجليزية والمعنية بالابتكار. ولكني قررت أن أبحث عن معانيها في القواميس العربية، رغم أنني كنت متشككاً في فرص حصولي على تعريفات تتماشى مع تلك المستخدمة اليوم في الدول المتقدمة.

وكانت سعادتي كبيرة عندما وجدت أن القاموس العربي يعرّف الاختراع Invention والإبداع Creativity والابتكار Innovation بنفس المعنى والطريقة التي تعرّفها وتدرسها الدول المتقدمة في مدراسها وجامعاتها، معتمداً ومستدلاً بالقرآن الكريم. حقاً لقد عرف العرب هذه المصطلحات منذ ظهور الإسلام، وأدركوا معانيها ومدلولاتها وتطبيقاتها، لذلك كانت حلقات الابتكار في العصر الإسلامي مكتملة.

 في الواقع، ليس ثمة كثير اختلاف بين ما هو وارد من تعريفات في القواميس والمعاجم، ومن ذلك:

الاختراع: هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود بمادّة. واخترع الله الكائنات، أي أخرجها من العدم.

الإبداع: هو الشيء الذي يكون أوّلاً. قال تعالى: "قُل ما كنتُ بِدعاً من الرُّسُل"، أي ما كنت أوّل من أُرسل. إذ أرسل الله قبلي رُسلاً كثيرين.

ومن هنا، يعرف المبدع في العلوم الحديثة بأنه هو من استحدث أشياء من عناصر كانت موجودة أولاً، ولكن ليست بالشكل المبتدع.

 الابتكار: أصلها بكَر، والتي تعني حدوث الشيء باكراً. يُقال ابتكر الرجل أي أدرك أول الخطبة. واستولى على باكورة الشيء، أي أدركه من البداية. وأما في العلوم الحديثة، فيعني "الابتكار" تبني واستغلال الأفكار عند ابتداعها، أي وهي لا تزال بكراً.

نعود إلى موضوع طلبتنا المشاركين في معرض "بالعلوم نفكر"، فقد أدى هؤلاء الطلبة والطالبات دورهم في ابتكار كثير من الأفكار. وحسب معلوماتي فإن نحو 25 % من الابتكارات المعروضة كانت قابله للتسجيل كبراءات اختراع، ما يعني أنها قابلة للتطبيق. ولكن ما كان ينقص المعرض هو تلك الحلقة المفقودة التي أشرنا إليها، والتي تتمثل في الأشخاص والمؤسسات المبتكرة.

ما هو دور هؤلاء الأشخاص والمؤسسات المبتكرة؟

عندما تنتقل الفكرة من المبدع إلى المبتكر، يكون دور هذا الأخير هو تطوير هذه الفكرة، وتجسيدها في شكل خدمة أو منتج قابل للاستخدام، ذي جدوى اقتصادية، ويفيد الأفراد والمجتمع. ربما جاز لنا القول بأن الأفكار التي كانت مطروحة في المعرض هي مواد خام بحاجة إلى تصنيع. ولكن "مصانع الأفكار" في مجتمعنا تظل غائبة.

هناك نوعان من المصانع لتطوير الأفكار، الأولى تسمى بمختبرات البحث والتطوير، والأخرى تسمى بمراكز الابتكار. والنوعان سائدان في الشركات الربحية الكبرى والجامعات وبعض المؤسسات الحكومية والمستقلة.

في الواقع، إن بناء مثل هذه المختبرات والمراكز ليس بالأمر السهل. فهي بحاجة إلى استثمارات كبيرة وتكنولوجيا متقدمة وعلماء أكفاء. ولتشغيلها والرفع من كفاءة عطائها، فهي بحاجة إلى الأشخاص والجهات المبدعة والمبتكرة والمستثمرة والمشاركة الداعمة للعملية الابتكارية. وفي رأيي، فإن هذه المختبرات والمراكز.

وإن لم تخلُ منها دولتنا، فهي لم تلعب الدور المرتجى في دعم الابتكار في مجتمعنا، وبالذات لمثل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين التقيت بهم في المعرض، وذلك لغياب العوامل المذكورة، والتي سوف أتطرق إليها في مقالاتي القادمة.

أخيراً، علينا أن نقرّ بأن شبابنا في المعرض أدّوا ما عليهم، ونحن لم نؤد ما علينا. وأستثني هنا "مؤسسة الإمارات لتنمية الشباب"، التي تبنت من الأساس فكرة هذا المعرض. ومن خلال حديثي مع المسؤولين في المؤسسة، تطرقت إلى موضوع الحلقة المفقودة، وأخبروني بأنهم يدركون هذا "الخلل"، ولديهم مبادرات مستقبلية لتلافيه، ومن ثم تكملة الحلقات. أدعو الله لهم بالتوفيق.

 

Email