ها قد أتت السدود الغادرة.. ففي آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، تعكف الدول على بناء سدود كهرومائية جديدة، غافلة، فيما يبدو، عما قد يكون لذلك من تأثيرات كارثية على دول المصب.

وعلى سبيل المثال، فقد وضعت لاوس حجر الأساس لسد جديد على نهر ميكونغ، مسببة قلقا أقرب إلى الغضب في كل من كمبوديا وفيتنام، والهند غاضبة بشأن سد صيني جديد يجري بناؤه على نهر براهمابوترا، ويثير سد إثيوبي جديد على نهر النيل غضب السودان فيما تهدد مصر برد عسكري.

فما سبب كل هذا الذعر وما هو أسوأ منه؟ لتلك المخاوف جوانب عدة، ولكن بشكل عام، فقد وفرت تلك الأنهار الرزق للملايين من الناس على امتداد آلاف السنين، والسدود تهدد ذلك. ولهذا السبب، فقد شكل بعض الدول لجانا متعددة الجنسيات منذ عقود، لكي تفصل في نزاعات كهذه، وإحدى تلك اللجان هي لجنة نهر ميكونغ، التي تتعهد بـ"وضع التعاون الإقليمي والتخطيط على نطاق الحوض في قلب عملها".. ولكن ذلك لا يجدي نفعا.

المشكلة الأكبر هي أن العديد من دول المنبع، مع تفاقم مشكلة تغير المناخ وازدياد طلب الشعوب المتنامية على المياه والطاقة، تتجاهل مسؤولياتها تجاه جاراتها من دول المصب، كما تتجاهل المبادئ التوجيهية الموضوعة من قبل اللجان التي ساعدت هي في تشكيلها.

ولعل المثال الأكثر شناعة هو لاوس، التي وضعت حجر الأساس لسد كهرومائي جديد على نهر ميكونغ في أواخر العام الماضي، صامة أذنيها عن صيحات الشكوى الصادرة من المصب. ففي كمبوديا الواقعة جنوبها مباشرة، على سبيل المثال، يوفر نهر ميكونغ لقمة العيش لنسبة كبيرة من السكان بسبب ظاهرة طبيعية غريبة.

فنهر تونلي ساب في كمبوديا يمثل رافدا لنهر ميكونغ، يتدفق نحو الجنوب الشرقي من بحيرة تحمل الاسم نفسه.

وفي كل ربيع يفيض نهر ميكونغ ويزداد تياره قوة، إلى درجة تفرض على نهر تونلي ساب أن يعكس مساره ويعود بأطنان من الطين الخصب الغني وملايين الأسماك الصغيرة إلى البحيرة، فتفيض البحيرة مرسبة تربة غنية جديدة فوق ألوف الدونمات المحيطة بها، وتوفر الأسماك الطعام للكمبوديين على مدار العام. ومن خلال تقييده المحتمل لتدفق النهر، يهدد سد لاوس ذلك كله.

ولكن المشكلة أكبر من ذلك، فخلال وضع حجر الأساس، قال مسؤولون لاوسيون إنهم يأملون أن يساهم السد الجديد في انتشال دولتهم من وضعها باعتبارها إحدى أفقر دول العالم، فالعديد من اللاوسيين لم يروا في حياتهم مصباحا كهربائيا.

ولكن في الواقع، وبعد وقت قصير من ذلك، وقعت الحكومة عقدا لبيع معظم الكهرباء، إن لم يكن كلها، إلى تايلاند. ومن شبه المؤكد أن قادة لاوس الفاسدين وغير الخاضعين للمساءلة، سوف يضعون العائدات في جيوبهم.

ومع ذلك، فإن لاوس تخضع لشكل منحرف من العدالة السدودية. فالآن، وعلى نحو مفاجئ، يشعر هؤلاء القادة أنفسهم بغضب شديد بشأن سد آخر تقوم الصين ببنائه على نهر ميكونغ، الى الشمال مباشرة من الحدود اللاوسية.

ومنذ فترة وجيزة، كشفت الصين عن خطط لبناء أكثر من 60 سدا كهرومائيا جديدا خلال السنوات القليلة المقبلة، مثيرة، على الأرجح، خلافات عدة.

وأحد تلك السدود هو بالفعل قيد الإنشاء على نهر يارلونغ تسانغبو، الذي ينبع من التبت ويتدفق جنوبا إلى بنغلاديش والهند، حيث يعرف بنهر براهمابوترا. وصرح راجناث سينغ، وهو سياسي هندي بارز، بأن السد الصيني "سوف يكون كارثيا بالنسبة لمناطق المصب الواقعة في الشمال الشرقي"، إلا أن الصين تبدو غير نادمة.

وفي الشرق الأوسط، أكدت مصر سيطرتها الكاملة على نهر النيل منذ عام 1929، عندما أعدت الحكومة البريطانية الاستعمارية "معاهدة" تخصص 80% من مياه النيل لمصر والسودان. ومنذ ذلك الحين تصر مصر على أن أحكام المعاهدة لا تزال سارية، وقد هددت بمهاجمة جيرانها الذين يتجرأون على خرق المعاهدة.

وفي نهاية المطاف، فقد عاش المصريون طويلا اعتمادا على النهر، يصيدون الأسماك ويستخدمون الطمي النهري لتغذية المحاصيل.

غير أن مصر عالقة الآن في ثورة ضد محاولات الإخوان المسلمين المتعثرة في الحكم، ويبدو أن جاراتها من دول المنبع لم تعد تخشاها، وبالتالي فإن إثيوبيا تبني حاليا ما تسميه بسد النهضة الكبرى، وهو سد كهرومائي هائل تبلغ كلفته 4,8 مليارات دولار.

وتعتزم إثيوبيا إنشاء خزان كبير خلف السد لضمان استمرار تدفق المياه، ولكن يقول خبراء هيدرولوجيون إن ملء الخزان يمكن أن يستغرق خمس سنوات، "مؤثرا بشكل كبير على الزراعة والكهرباء وإمدادات المياه في دول المصب"، كما قال حيدر يوسف، وهو خبير هيدرولوجي سوداني، لمجلة "الشرق الأوسط" مؤخرا. والأهم من ذلك، حسب قول يوسف، هو أن 3 مليارات متر مكعب من المياه سوف تتبخر من خزان السد كل عام.

وفي أواخر العام الماضي، أزاح موقع "ويكيليكس" الستار عن مذكرة هددت فيها الحكومة المصرية بنشر قاذفات مقاتلة لتدمير سد إثيوبيا، وأكدت الحكومة أن المذكرة كتبت في عام 2010، أي قبل الثورة، وليست سارية الآن، ولكن إذا راح النيل يجف بسبب ذلك السد الغادر، فقد تغير مصر رأيها.