الحكمة الآسيوية والحل بين الكوريتين

ت + ت - الحجم الطبيعي

في السادس من يونيو/ حزيران 2013 نشرت وسائل الإعلام خبراً مهماً، أكدت فيه موافقة جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (الشمالية) وجمهورية كوريا الجنوبية على استئناف التعاون بينهما، وذلك بعد أن عقد ممثلو الكوريتين محادثات إيجابية أفضت إلى عودة العمل في مجمع كايسونغ الصناعي إلى طبيعته، واستئناف الخدمات السياحية في جبل كومجانغ.

بدورها أعلنت وزارة إعادة التوحيد في كوريا الجنوبية عن موقفها الإيجابي تجاه الاقتراح الذي تقدمت به كوريا الشمالية. وما لبثت الصين أن أعلنت دعمها للجهود التي تبذلها الكوريتان، من أجل حل القضايا العالقة بينهما عبر الحوار المسؤول، وأبدت استعدادها لمساعدة الجانبين على إحراز تقدم يعزز العلاقات بينهما، ويضمن المصالح الحيوية للشعب الكوري على طريق الوحدة والاستقرار، ونبذ الحرب كأسلوب لحل النزاعات.

جاء هذا الانفراج المفاجئ بين الكوريتين على خلفية إعلان كوريا الشمالية عزمها على إعادة فتح خط ساخن مع كوريا الجنوبية، خاص بالصليب الأحمر، ما شكل نوعاً من التمهيد للقاء مرتقب بين مسؤولين من الدولتين، لإجراء محادثات جدية لتحسين العلاقات بينهما. تناسى الكوريون الجنوبيون التهديدات التي أطلقتها كوريا الشمالية منذ أسابيع قليلة، ووضعت العالم كله في حالة خوف وترقب من انفجار حرب في شبه القارة الكورية، تستدرج إليها اليابان والولايات المتحدة الأميركية ودولاً أخرى، وتستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، بما فيها السلاح النووي.

تضمن اقتراح كوريا الشمالية دعوة إلى حوار جاد لتطبيع العلاقات بين الكوريتين، وإقامة مشاريع تجارية مشتركة، وإعادة تشغيل المنطقة الصناعية المشتركة، بعد أن أغلقها الشماليون عندما بلغ التوتر أقصاه مع الأميركيين في أبريل/ نيسان الماضي.

أثار هذا التحول المفاجئ في موقف كوريا الشمالية دهشة المراقبين، وطرح علامات استفهام كبيرة حول الإعلان عنه في هذا الوقت بالذات.

1- بدا واضحاً أن كوريا الشمالية أقدمت على هذه الخطوة الإيجابية المدروسة جيداً، قبيل لقاء القمة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأميركي باراك أوباما في كاليفورنيا، وقد تضمن جدول أعمالها بنداً خاصاً بضرورة معالجة البرنامج النووي ووقف التجارب التي تجريها كوريا الشمالية، ومنعها من التهديد مجدداً بمهاجمة كوريا الجنوبية، أو إطلاق صواريخ باليستية في بحر اليابان تضع العالم كله أمام مخاطر هجمات نووية مدمرة.

2- وافقت كوريا الشمالية على تنشيط لجنة إعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية عبر المفاوضات، والدخول في مرحلة جديدة من العلاقات بين الجانبين وتعزيزها على مختلف الصعد، وإقامة المشاريع المشتركة التي تنمي روح التعاون بين أبناء الشعب الواحد على طريق تحقيق الوحدة التامة. وكانت مفاوضات اللجنة السداسية لحل الأزمة الكورية، قد نجحت سابقاً في إقناع كوريا الشمالية بوقف تجاربها النووية مقابل مساعدات اقتصادية ومالية وتقنية، وأنشأت كوريا الجنوبية مركزاً مشتركاً للإنتاج المكثف في منطقة حدودية بين الكوريتين، يضم آلاف العمال من الكوريين كبادرة إيجابية لتوحيد الشعبين.

3- أصرت كوريا الشمالية دوماً على إجراء سلسلة من الاختبارات النووية في بحر اليابان، وكانت تثير رعباً حقيقياً في أوساط شعبي اليابان وكوريا الجنوبية، ما اضطر الدولتين إلى تعزيز علاقاتهما العسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية، التي شكل وجودها العسكري في موانئ هاتين الدولتين وفي أراضيهما، نوعاً من الحماية الأميركية العلنية لهما.

لكن الولايات المتحدة نقلت أخيراً قسماً من قواتها التي كانت موجودة في الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، وحاولت نقل الصراع إلى منطقة جنوب وشرق آسيا، التي تشكل اليوم المركز الاقتصادي الأكثر دينامية على مستوى العالم. وسرعان ما تأزمت الأوضاع بين اليابان والصين، على خلفية ملكية جزر سانكاكو/ ديايو المتنازع عليها في جنوبي بحر الصين، وتوترت العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية على ملكية بعض الجزر، إلى جانب التوتر الدائم بين اليابان وكوريا الجنوبية مع كوريا الشمالية.

ويبدو أن كوريا الشمالية قد ضمنت أخيراً، أمنها برعاية صينية، ما ساعدها على الانفتاح المفاجئ على كوريا الجنوبية، وإعادة تنشيط المصالح المشتركة بينهما، على قاعدة الحكمة الصينية التي تقول: «لا يجوز أن يراق الدم الصيني على أرض الصين، بأيد صينية». وقد وجدت تلك الحكمة صدى إيجابياً لدى الكوريين، فاتجهوا نحو الحل السلمي لانقسام الكوريتين، وتعزيز المصالح المشتركة بينهما، والتوقف نهائياً عن التهديد بالسلاح النووي أو القيام بتجارب استفزازية ضد دول الجوار في بحر اليابان.

نخلص إلى القول إن كوريا الشمالية تعاني منذ زمن بعيد من مشكلات اقتصادية واجتماعية كبيرة، وكانت تتلقى مساعدات من اليابان وكوريا الجنوبية والصين ودول أخرى، وقد زادت حدة هذه المشاكل بعد توقف اللجنة السداسية عن العمل، بضغوط أميركية بالدرجة الأولى.

في المقابل، خططت الولايات المتحدة لنقل الصراع العسكري إلى الشرق الأقصى، والعمل على إسقاط النظام الشيوعي في كوريا الشمالية بالقوة العسكرية، ما اضطرها إلى إعلان التعبئة العامة للدفاع عن شعبها ونظامها، والتهديد باستخدام سلاحها النووي، فوصلت المنطقة إلى حافة الحرب. لكن الصين نجحت في تنفيس الاحتقان في شبه الجزيرة الكورية، ودانت تجارب كوريا الشمالية النووية، ومنعتها من الدخول في صراع عسكري غير متكافئ مع الأميركيين، ودعت إلى إيجاد حل سلمي للأزمة عبر استئناف المحادثات السداسية.

ختاماً، نجحت الحكمة الآسيوية في منع نشوب حرب نووية في جنوب وشرق آسيا، تدمر المنطقة بأسرها وتهدد مصير العالم كله. وتعاطت القيادة الصينية بمنتهى العقلانية مع هذه الأزمة المفتعلة، فجنبت منطقة الشرق الأقصى حرباً غير مبررة. وبعد أن شعرت كوريا الشمالية بالاطمئنان، بادرت إلى مد يدها لكوريا الجنوبية، ودعت إلى التعاون الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، لضمان الأمن والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية.. فهل يتوقف الأميركيون عن التدخل في مستقبل الشعوب الآسيوية ودولها؟

Email