عنصر اللغة في الأجهزة الحديثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أخذت بنصيحة صديق لي في أن ألحق بركب الحداثة، باقتناء جهاز هاتف حديث، فاشتريت جهازاً جديداً منذ أسابيع، وعندما حاولت إعداده ليخدم حاجاتي، وجدتني أتصفح عنصر اللغة في واجهته وقوائمه.

كان أول هاتف اشتريته لا يحتوي على عنصر اللغة العربية، وهكذا أدمنت المصطلحات باللغة الأجنبية، وطريقتها في التعبير عن الوظائف في هذه الأجهزة، مثل التليفون والفيديو والتلفزيون، وطبعاً الكمبيوتر (وأنا هنا أستخدم المصطلحات غير المعربة عن قصد)، فأجد طريقي سالكة بين متعرجات المفاهيم وصفحات التقنية الحديثة.

ولا أخفيكم أني شعرت بالرعب حين غيّرت، بدافع الفضول، عنصر اللغة في هاتفي الجديد إلى اللغة العربية، فانفتحت أمامي بوابة لغوية غريبة عجيبة، ربما لأني اعتدت العلاقة بين المصطلح الأجنبي ومفهومه، فأعرف القصد والغاية والطريق، ولأن المصطلحات والتعبيرات المستخدمة في الواجهة العربية وقوائم الوظائف المختلفة، غائمة غريبة، مثل دليل سياحة أعمى.

أو كما يقول السياب: «سيارة إسعاف سوداء سائقها أعمى»، أو لأنها لا تعقد صلة واضحة بين المصطلح والمفهوم المفترض لها. وكان الشعور بالرعب مرده ربما إلى إحساس بالضياع، وصعوبة معرفة طريق العودة، بل ربما استحالته، طريق العودة إلى المكان الذي أعرفه، ممراته وزواياه وإشاراته وحركاته وسكناته، فضاء اللغة الأجنبية المألوف كأنه حي بيتنا القديم الذي - في سياق الطفولة ضيق الحدود - واضح المعالم، معروف الدروب، طريق المدرسة والسوق وملاعب الصبا.

كيف يمكن أن تكون الواجهة العربية في الجهاز الحديث مفازة يضيع فيها العربي؟ هل هي اللغة نفسها؟ طبعاً لا. هل السبب في المستخدم؟ ربما، ولكني لا أظن أن من درس العربية وتشرّبها، تصعب عليه بضع كلمات في جهاز إلكتروني. هل هو المترجم؟ أظن ذلك. ليس المترجم شخصياً، بل قراراته وقناعاته، أو بمعنى أعم، فريق العمل الذي يترجم البرمجيات والأجهزة الحديثة إلى اللغة العربية ويشرف عليها.

وهي القرارت التي اتخذها في التعامل مع المفاهيم التي أدخلتها اللغة الرقمية في لغتها الأصلية، لينقلها لنا لغوياً بطريقة تجعل ممرات القوائم وعرة المسالك، وكذلك القناعات في النظر إلى العوامل المختلفة التي تؤثر في قرارت الترجمة.

ولن أدقق هنا في سوء اشتقاق الكلمات وتصريفها، لأنها ناتجة، ليس من الافتقار للمعرفة اللغوية الرصينة والدقة في العمل الاحترافي المتخصص فحسب (وهو أمر مطلوب ومعيار للجودة في السياق الاقتصادي الذي يجري فيه التعامل مع الأجهزة الحديثة لغوياً لتسويقها في دول العالم)، بل هي ناتجة ربما من قلة الاكتراث من فريق العمل من المترجمين - وأغلبهم، إن لم يكن جميعهم، من العرب - ومهندسي الإنتاج والمشرفين عليه.

وغالباً ما يكونون من غير العرب. في معظم الأحيان تكون مصطلحات شركة ما وترجماتها إلى لغات العالم، ثابتة، لا يطرأ عليها أي تغيير أو تحديث بعد سنوات طويلة من صياغتها، لأن أي تحديث يعني بذل الأموال والجهود، وتخصيص الوقت الغالي لذلك. وربما يتردد المترجم خوفاً على "أكل عيشه"، في أن يعبر عن رأيه في تصحيح المصطلحات وتحديثها، وبذلك تبقى المصطلحات "العوجاء" مستخدمة في أحدث الأجهزة في القرن الواحد والعشرين والقرون التي تليه.

نتج عن التقدم العلمي والتقني في مجال هندسة الحاسوب وتصميمه وثورة الاتصال الرقمي، استحداث مفاهيم احتاجت إلى مصطلحات تشير إليها، وهي مصطلحات صيغت اشتقاقاً أو تركيباً أو مجازاً في اللغة التي شهد مجتمعها مثل هذا التقدم العلمي والتقني. وفي بعض الحالات، تكون المصطلحات غامضة، وتحدث لبساً في اللغة الأصلية نفسها.

ولا مناص من أن يتصف الكثير من هذه المصطلحات بملامح ثقافة ذلك المجتمع. وحين وجدت المنتجات الرقمية طريقها إلى أسواق العالم، كان لا بد من ترجمتها إلى لغات تلك الأسواق، فصيغت مصطلحات جديدة باللغة العربية، نجحت مرة وخابت مرات، وبقيت متحجرة سنوات طويلة، لا تحيد عن الطريق المعتم الذي تريد أن تقودنا فيه داخل تلك الأجهزة.

ومن الأساليب الجديدة للشركات في التعامل اللغوي في هذا السياق، هو الطلب من الناس، ومعظمهم من الهواة، ممن يستخدمون مواقع الإنترنت والأجهزة الحديثة، تقديم ترجمات في إطار ما أسميه "الترجمة الشعبية"، وهو في جانب منه إيجابي.

وفي جوانب كثيرة سلبي، لأن الناس سيقدمون حلولاً لغوية تناسب تفكيرهم وتصورهم لقوائم أو وظائف معينة، لكن من يضمن الصياغة الصحيحة والصلة الواضحة بين المصطلح والمفهوم؟ فإذا كان المترجمون من أصحاب المعرفة والخبرة يقدمون حلولاً سيئة الصرف والاشتقاق، فكيف بمن لا يتخذ اللغة صنعة له، ويشوب لغته ما يشوبها؟.

لا يخضع عنصر اللغة في الأجهزة الحديثة للطريقة المعروفة في نظم الكلام خطياً كلمة بعد أخرى، بل إلى تسلسل عمودي يفتح صفحات جديدة لخيارات وأوامر ذات عناوين من كلمات مفردة أو من كلمتين فقط، والتفافات جانبية لتقديم طريقة مرنة في الملاحة في وظائف الجهاز تحتاج أحياناً إلى مران. وإذا لم تكن هذه العناوين واضحة سلسة ذات ارتباط مباشر وصحيح بالمفاهيم، سيضيع المستخدم في بحر لغته.

 

 

 

Email