صورة الصين في الاستشراق الأميركي المتجدد

ت + ت - الحجم الطبيعي

احتلت مسألة العصبيات الطائفية والعرقية والقبلية موقعاً متقدماً في الدراسات الاستشراقية الغربية، منذ بدأت الدول الأوروبية تعمل على تفكيك السلطنة العثمانية واحتلال ولاياتها بصورة تدريجية.

وركزت تلك الاستراتيجية أولا على قوميات منطقة البلقان، ومعها طوائف قبائل المنطقة العربية، ثم توسعت لتشمل قوميات وطوائف آسيا الوسطى، وإفريقيا.

وبعد أن ورثت الإمبريالية الأميركية عن أوروبا زعامة "العالم الحر"، حاولت أن تبني لها سياسة أخرى لا تحتل فيها العصبيات الدينية والقومية موقعا متقدما. لكنها فشلت في مخططاتها، فلجأت مؤخرا إلى تلك الاستراتيجية القديمة المجربة، وتعمل حاليا على استخدامها لإضعاف الدول المنافسة لها على المستوى الكوني، وتحديدا الصين وروسيا.

في هذا السياق، حمل بعض الدراسات الأميركية عناوين إيديولوجية تبرز بوضوح مدى تبنيها للمسألة الطائفية في تحليل مجتمعات الشرق الأقصى، وأعطى مؤلفوها المسألة العرقية والدينية مكانة خاصة، وحرضوا الأقليات القومية والدينية في التيبت وشينجيانغ وغيرها من المناطق الإسلامية في الصين، على المطالبة بإقامة دول مستقلة ترفض الخضوع لجمهورية الصين الشعبية، التي تضم ستا وخمسين قومية.

يكفي التذكير بكتاب جوناثان لبمين "غرباء مألوفون: المسلمون في شمال غرب الصين"، الذي صدر ضمن منشورات جامعة واشنطن عام 1997، إذ يشير عنوانه إلى جوانب التعارض والاختلاف والتمايز والعداء بين المسلمين وغير المسلمين في الصين، ويعتبر مؤلفه أن مسلمي تلك المناطق من الصين غرباء عن وطنهم التاريخي، وقدم نماذج انتقائية تمتد على فترة ألف وثلاثمائة سنة، ليثبت قمع السلطات الصينية للجماعات الإسلامية التي أخضعت بالقوة لإمبراطور الصين.. وكأن إمبراطور الصين آنذاك كان يمارس الديمقراطية مع القوميات الأخرى.

ويدفع بالتحليل الطائفي إلى أقصى مداه، فيعتبر أن الانتفاضات الشعبية ضد السلطة الاستبدادية الصينية تندرج ضمن ثورات البحث عن الاستقلال التام والانفصال، على أساس التمايز الديني.

وعلى غرار الدراسات الاستشراقية الغربية عن الأقليات الدينية، دعم المؤلف مقولاته النظرية عن التمايز، بتحليل إيديولوجي ينبني على الخصوصية والهوية الإسلامية التي تمنع المسلمين من الخضوع لحاكم غير إسلامي، أو التتفاعل مع القوميات العرقية والطوائف الدينية غير الإسلامية في الصين.

وبعيدا عن التحليل العلمي الرصين، شبه أحداثا وقعت منذ أكثر من ألف عام، بأحداث آنية شهدتها الصين في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك انطلاقا من مقولة غير عقلانية تقول بأن التاريخ يعيد نفسه باستمرار.

واستعان بمقولة "التقية" المعروفة في تاريخ الجماعات المعارضة للسلطة المركزية، ليحلل علاقة مسلمي الصين بدولتهم المركزية، واصفا إياها بأنها كانت وما زالت غير ودية، وأن مسلمي الصين لم يندمجوا في المجتمع الصيني.

ويزعم أن الجماعات الإسلامية المنتشرة ضمن أكثر من عشر قوميات، رفضت الخضوع للدولة المركزية الصينية، انطلاقا من خصوصية مسلمي الصين وتمايزهم ورفضهم الاندماج مع باقي الصينيين. ودعا مسلمي العالم للتضامن معهم في نضالهم لنيل استقلالهم، وإقامة دولتهم المستقلة لحماية هويتهم الدينية الخاصة، التي جعلتهم على الدوام "غرباء" على أراضيهم وفق عنوان الكتاب.

يتجاهل هذا النمط من الدراسات بالكامل حركة التاريخ الحديث والمعاصر، التي تميزت بالتفاعل الإيجابي بين الجماعات القومية والدينية واللغوية التي تشغل مساحات شاسعة من أراضي الصين، فلجأ المؤلف إلى مقولات استشراقية عفا عليها الزمن، ليحلل التمايز السكاني على أسس دينية.

لكن الصين وغيرها من دول الشرق الأقصى، لا تعاني من مشكلات دينية مفتعلة، بل من مشكلات داخلية حقيقية على أرض الواقع، وأبرزها التنوع الجغرافي والعرقي والسكاني الهائل، والتمايز الحاد بين مداخيل سكان المدن الكبرى والأرياف، والفوارق الحادة في مجالات السكن، والعمل، والعلم، وأنماط الحياة. فليس من السهل على بلد كالصين أن يطور كتلة بشرية تتجاوز المليار وثلاثمائة مليون إنسان، خلال فترة زمنية قصيرة.

وللصين مفهوم خاص عن الديمقراطية، وحقوق الأفراد والجماعات، ودور مؤسسات المجتمع المدني، وهي تعالج مشكلاتها انطلاقا من مبدأ الحفاظ على الوحدة الوطنية ورفض كل أشكال التجزئة والانفصال.

وتبدي دول الشرق الأقصى، الحرص الشديد على إخراج شعوبها من دائرة التبعية والتخلف التي كانوا عليها في نهاية الحرب العالمية الثانية، ولديهم طاقات بشرية كبيرة، ويمتلكون العلوم العصرية، والتكنولوجيا المتطورة، والموارد المالية الهائلة.

ويتمسك الصينيون، على اختلاف قومياتهم وطوائفهم، بتقاليدهم الموروثة وحساسيتهم المفرطة تجاه أي تدخل أجنبي أو وجود عسكري على أراضيهم. وتشكل مقولات كونفوشيوس العمود الفقري في الفكر السياسي الصيني، وقد بنيت على أساس الحفاظ على الوحدة الوطنية، ورفض أي ارتباط لجماعة صينية بدولة أجنبية، ومنع الاقتتال بين الصينيين وفقا للحكمة الصينية القائلة: "لا يجوز أن يراق الدم الصيني على أرض الصين، بأيد صينية".

ويعمل الصينيون متحدين لتعزيز دور بلدهم كقوة اقتصادية عالمية، وأن تكون الصين دولة عظمى وفاعلة في صياغة القرارات الدولية داخل مجلس الأمن.

ختاما، لم تعد مقولة "الغرب المادي والشرق الروحاني" تنطلي على الباحثين الآسيويين، فالممارسة الدينية محترمة وتقوم بها الجماعات الطائفية والمذهبية بحرية تامة، لكن روحانية الشرق والغرب لا تخلو من فتاوى سياسية لا تمت إلى الأديان بصلة، بل تساهم في تعميم الجهل والتخلف وتعيق حركية التقدم.

واستغلت المقولات الاستشراقية على نطاق واسع في القرنين التاسع عشر والعشرين، ونتج عنها عزل الفكر التنويري عن مراكز التغيير في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وأدت الدعوة الزائفة باسم الحفاظ على الأصالة والهوية الدينية والتراث، إلى تعميق سيطرة الغرب على كثير من دول العالم.

لذلك حرص متنورو الشرق الأقصى على جعل الغرب والشرق معا موضوعا لدراسات نقدية، تظهر حقيقة ما تقوم به الأنظمة السياسية في كل منهما تجاه شعوبها وشعوب العالم في آن واحد.

فتلاقي الشرق والغرب في إطار نظام عالمي جديد، لم تعد تسيره مقولات استشراقية تجاوزها الزمن لبناء أنظمة سياسية على أسس عرقية أو دينية أو قبلية. فعالم اليوم محكوم بالتفاعل السياسي والثقافي بعمق، ومن موقع الندية، لحماية المصالح المشتركة لجميع شعوب العالم.

Email