الولع بهزيمة يونيو

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل يمكن أن تمر ذكرى الخامس من يونيو يوماً عادياً في حياتنا، قد نتذكر فيه حرب 1967 ونشعر بالألم وبعض المرارة من الهزيمة التي لحقت بنا، لكن دون أن نلطم الخدود ونشق الجيوب و"نولول" عليها؟!

البداية غير مبشرة بالمرة، لأن هزيمة 5 يونيو مرتبطة بزعيم عظيم، أعداؤه لم ينسوه ولم يغفروا له تحديه لهم وصراعه معهم داخلياً وخارجياً، مع أنه رحل عن عالمنا منذ 43 عاما، هو جمال عبدالناصر.

ويبدو أن ثمة ندابين متخصصين في الإعلام العربي، يحولون ذكراها إلى عملية إحياء شرسة لتلك الهزيمة.. وقد بدأوا مبكرا في بعض الفضائيات والصحف الموالية لجماعة الإخوان، فجمال عبدالناصر كان أشد خصوم تلك الجماعة، وشن عليها أكبر حملة مطاردة وملاحقة في تاريخها كله، مصوراً إياها بالخطر الهائل على الأمة.

والجماعة تصف المعارضين الأقوياء لها بأنهم أنصار عبدالناصر، وصب الدكتور عصام العريان نائب رئيس "حزب الحرية والعدالة" الإخواني، جام غضبه عليهم في مصر وقال في فضائية عربية: إن "أنصار عبدالناصر يتربصون بالبلاد ومنتشرون في كل المجالات، سواء الأمنية أو الاقتصادية أو الحزبية أو الإعلامية أو القضائية أو التعليمية، وهم من التنظيم الطليعي الذي غرسه جمال عبدالناصر في كل مفاصل وسلطات الدولة"، واتهمهم بـ"محاولة تدميرها"!

كلام بلا منطق، فهذا التنظيم حل منذ 42 سنة، حين قبض الرئيس أنور السادات على معظم قياداته في أحداث 15 مايو 1971، والتي عرفت إعلامياً بثورة التصحيح، ولم يعد له وجود بعدها، وأغلب من كانوا أعضاء فيه إما رحلوا عن دنيانا من سنوات طويلة، أو في أواخر العمر ما بين السبعين والثمانين عاما.. فكيف ينتشرون في مفاصل الدولة؟!

الهدف هو جمال عبدالناصر قبل أيام من ذكرى هزيمة يونيو..

في الوقت نفسه راحت بعض الفضائيات تتحدث عن تلك الهزيمة وتصنع برامج حوارية عنها، تحت تبرير سؤال خادع: لماذا وقعت وما أسبابها؟!

المدهش أن أسباب النكسة مختلفة باختلاف الفصائل السياسية العربية، القوميون يردونها إلى غياب الوحدة، والليبراليون يرجعونها إلى غياب الحريات والديمقراطية، والإسلاميون يرونها حتمية للبعد عن تطبيق الشريعة الإسلامية، والماركسيون يجدون في هشاشة وضعف البنيات الاجتماعية للمجتمعات العربية سبباً رئيسياً، مع أن إسرائيل التي كسبت الحرب كانت تفتقد ثلاثة من هذه العناصر!

التفسير العام بسيط للغاية ومسجل في تاريخ كل الأمم التي خسرت معارك كبرى، وهو أن الدول التي لا تأخذ بأسباب القوة الشاملة؛ عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحضارياً، عرضة للتراجع في أي وقت يشاء فيه أعداؤها أن يعيدوها إلى الخلف.

والأكثر دهشة أن عددا من الذين ارتدوا ثياب الجدية في التحليل في فضائية عربية شهيرة وحملوا ألقابا فخمة، لم يجربوا أن يفحصوا أسباب الهزيمة، حسب ظروفها المحلية والإقليمية والدولية في عام 1967، حتى يستخلصوا منها العبر المستفادة، إنما فحصوها بمعايير وقتنا الحالي.

وبالطبع لا ننكر ثقل تلك الهزيمة ولا تأثيراتها الخطيرة على حياة المجتمعات العربية، أجيالا ونظما وسياسات، لكننا بالقطع تجاوزناها إلى حد كبير، وصارت مجرد جرح حتى لو كان عميقا، مثل عشرات الجراح التي أصبنا بها مع انهيار الدولة العباسية تحت سنابك خيول المغول، هزائم وانكسارات وغزاة، حتى وصلنا إلى الاحتلال الأميركي للعراق في أوائل القرن الحادي والعشرين.. لكن الحياة لم تتوقف أبدا، والأمم العظيمة تراجع انكساراتها قبل انتصاراتها، تقلب في أوراق الفشل كما تعلق بيادر الفوز والنجاح، ولا توجد أمة انتصرت في كل معاركها ولم يصبها الخسران مرة ومرات، فلماذا هذا الولع بهزيمة يونيو؟!

عموماً.. أتصور أن عملية الإحياء لـ"5 يونيو" لها هدفان أساسيان..

الأول: تصفية حسابات دائمة مع جمال عبدالناصر، وهو ما يثبت أن الرجل رحل بجسده فقط، لكن ما صنعه وما فكر فيه وما حلم به لوطنه وأمته مازال خطراً قائماً، يتجدد حصاره مع ذكرى تلك الهزيمة.

ثانيا: تثبيت روح الهزيمة في عالم العرب عامة، وعالم مصر خاصة، وهو كسر لأي قدر من الإرادة التي تفتش عن باب واسع للخروج إلى شمس التقدم والتنمية والعصر الحديث بمعايير العالم الأول، حتى لو كانت إرادة تحت الجلد لم تخرج إلى النور بعد، وتذكيرنا بأن نصر أكتوبر 1973 هو مجرد عمل عارض انتهى ولم يعد له أثر، بينما الهزيمة باقية تأكل على موائدنا وتشرب من مياهنا وتنام على أسرتنا وتغتصب رجولتنا.

ثالثا: وهو إضافي وجديد ولأول مرة يدخل إلى ساحة الندب، وهو وصول جماعة الإخوان إلى السلطة، فكيف منحنا عبدالناصر كل هذه الفرص وهو الذي تسبب في هزيمتنا، ولا نمنح الدكتور محمد مرسي فرصة لإثبات قدرته، وأن هؤلاء الساعين إلى فشله هم أنصار الهزيمة!

وقطعا هذا الولع هو جزء من الصراع الدائر على أشده، والذي تقوده دول بعينها تريد أن تلعب دوراً محورياً في الشرق الأوسط.. ولن يتوقف الصراع.

Email