مسلسل الألعاب الزائفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أتصور أن شعباً يعاني من الحيرة والارتباك قدر الشعب المصري، كل شيء في هذه الأيام غائم ضبابي.. الشيء المؤكد أن جحافل الفوضى سارحة مثل النمل في جنبات الحياة، وعجلة الاضطرابات السياسية تكاد لا تتوقف عن الدوران، والعنف والاشتباكات والمشاحنات خبز يومي في أرجاء البلاد، بينما رئيس الدولة يستقبل وزير الدفاع ووزير الداخلية ويهنئهما بسلامة عودة الجنود المختطفين السبعة، وإعلام الجماعة يملأ الأجواء صخبا وفرحا، احتفالا بالنصر المؤزر دون قتال ولا طلقة رصاص واحدة ولا نقطة دم مسالة.. مشهد في منتهى التناقض، بين شعب يحفر بأظافره بحثا عن مخرج له من النفق المظلم الذي حشر فيه، ورئيس وحكومة وجماعة حاكمة تدق طبول النصر في معركة لم تندلع أصلا.

والمدهش أن الجماعة والرئيس وحكومته وهم يحتفلون بعودة الجنود السبعة الذين اختطفتهم جماعة سلفية جهادية، نسوا تفاصيل صغيرة موجعة، تشي بعكس ما يشيعون ويذيعون ويبيعون للناس.

تفاصيل أوقعت غالبية المصريين في حيص بيص، فراحوا يتساءلون: أين الحقيقة؟ هل ما حدث أمر حقيقي أم حلقة من مسلسل "الألعاب الزائفة"، الذي ابتليت به مصر مع ثورة 25 يناير، وأخطرها الطرف الثالث الخفي المسؤول عن كل الجرائم التي ارتكبت ضد الثورة والثوار، مثل اقتحام السجون المصرية، الهجوم على 99 قسم شرطة في وقت واحد في كل محافظات مصر تقريبا، قتل المتظاهرين ببنادق مزودة بأشعة الليزر، المعركة الليلية في الثاني من فبراير 2011، وهي غير معركة الجمل الصباحية.. الخ؟! وبالفعل تبدو عملية خطف الجنود والإفراج عنهم، حالة عبثية غير مفهومة.. فالخاطفون جماعة جهادية، ومثل هذه الجماعات لا تهزل في عملياتها، وقلبها ميت، فهي تنفذ عمليات انتحارية ينسف الواحد منها نفسه بمتفجرات تحيله إلى عجينة من الدم واللحم، وهو لا يهتم لأن الجنة من وجهة نظرة على فركة كعب بعد رحيله الانتحاري..

ولهذا كان طبيعيا أن يتشدد الخاطفون في مطالبهم بالإفراج عن 19 سجينا في السجون المصرية محكوم على بعضهم بالإعدام، لارتكابه جرائم قتل ضد رجال شرطة.. وكان طبيعيا أيضاً أن يسربوا تسجيلا مهينا لهؤلاء الجنود المخطوفين، وهم معصوبو العيون في حالة مزرية يستنجدون وينوحون، تسجيلا أوجع قلوب المصريين وأدمى كرامتهم..

في المقابل استعد الجيش وقوات الشرطة لعملية تحرير لهؤلاء الجنود، ينقذون بها ما تبقى من هيبة دولة انتهكها متطرفون دينيون، أخرج رئيس الجمهورية بعضهم من السجون بقرارات إعفاء غامضة، بعد أن تولي السلطة بأيام. لكن الرئيس طلب التأني، من أجل الحفاظ على دماء المخطوفين والجماعة الإرهابية الخاطفة، وقد تكون هذه أول مرة في التاريخ يساوي فيها صاحب السلطة بين دماء الضحايا والجناة..

وبينما الاستعدادات على قدم وساق والأنباء تتواتر عن "عملية واسعة النطاق" لتطهير سيناء "الحرة أمنيا" من بؤر الإرهاب والجريمة، كانت المفاوضات تجري بين "الأهل والعشيرة" من الجماعات الدينية المختلفة، لإنهاء الأزمة وديا دون أن يقع الصدام الضروري بين الدولة المصرية والخارجين عليها.. وفجأة سقطت الأنباء من السماء؛ لقد عاد الجنود دون "تحرير" ولا عمليات، فقد ألقاهم الخاطفون المجهولون في الصحراء والتقطتهم سيارة عابر سبيل وأوصلتهم إلى أقرب نقطة أمن..

ليس هذا المهم.. فالأهم أن الرئيس استقبلهم بعد أن حلقوا ذقونهم واغتسلوا وارتدوا ملابس جديدة، من المؤكد أنها فُصلت لهم خصيصا في بضع ساعة، ودارت الكاميرات ولمعت الفلاشات وتطايرت التصريحات، وابتهج وزير الإعلام وأفاض في حكمة الرئيس التي أفرجت عن الجنود دون دماء مسالة.. ولم يقل أحد للمصريين ما الذي صنعته حكمة الرئيس بالضبط، وهم على استعداد جميعا أن يصدقوا ويهللوا، بشرط أن يشرحوا لهم تفاصيل تلك الحكمة ودورها..

كل هذا لا يهم..

السؤال: إذا كان هؤلاء السبعة المختطفون تحركت لهم القوات ولعبت معهم حكمة الرئيس، فماذا عن الجنود الستة عشر الذين قتلوا غدرا وقت أذان المغرب في شهر رمضان الماضي؟! أين ذهبت دماؤهم؟ هل كانت ماء مالحا من البحر المتوسط الذي تطل عليه مدينة العريش؟! أين الضباط المختطفون من سنتين ولا يٌعرف عنهم شيء وتكاد عائلاتهم تستجدي طوب الأرض للبحث عنهم؟! هل الجنود المصريون درجات في عرف الرئاسة؟! بعضهم إذا خُطفوا تقوم الدنيا ولا تقعد، وبعضهم إذا خطفوا لا تسأل عنهم، وبعضهم من الدرك الأسفل إذا قُتلوا، فليرحمهم الله ويلهم أهلهم الصبر والسلوان.

أما أن الحكاية لها جانب آخر، عملية خطف واسترجاع لها "شو إعلامي" وتحت السيطرة، تفرد لها المساحات والأضواء، وعملية خطف وقتل ممنوع الاقتراب والتصوير، وتُسدل عليها ستائر النسيان!

لم يبق أمام الجماعة إلا أن تعلن يوم عودة الجنود عيداً قومياً لها!

Email