معجزة رسمة البنغالية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد سبعة عشر يوماً من انهيار مجمع «رانا بلازا» في ضاحية سافار الصناعية الواقعة في عاصمة بنغلادش دكا، وبينما كان اليأس يدب في أفئدة وقلوب رجال الإنقاذ بأجهزتهم البدائية، سمع هؤلاء صوت استغاثة لامرأة شابة بين الركام تقول:

«أنقدوني.. أخرجوني أريد أن أعيش». فما كان من رجال الإنقاذ إلا أن دب في قلوبهم الانتعاش، وغمروا بفرح شديد حينما أخرجوا عاملة النسيج رسمة من بين الأنقاض، وهي ما زالت على قيد الحياة، دون أن يمسها سوء بعد أكثر من أسبوعين من سقوط ذلك المجمع على رؤوس العاملين فيه، والمقدر عددهم بثلاثة آلاف جلهم من النساء.

العناية الإلهية أنقذت رسمة من الهلاك، إذ كانت في صالة في الطابق الثاني من المبنى، حيث لم تسقط كل جدرانها وبقت أجزاء من السقف قائمة، ما أتاح لها الحركة والتنفس، حيث كان الهواء يدخل من عدة فتحات من الركام المتجمع حولها. وهي أيضاً كانت محظوظة بوجود الطعام لديها فضلاً عن الماء، وقد نفد الطعام والماء منها قبل يومين فقط من انتشالها! والحق أنها لم تحلم بأن ترى النور ثانية، كما نقل مراسل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية (10/5).

إن الفساد الإداري كان هو السبب المباشر لانهيار مجمع «رانا بلازا»، الذي أودى بحياة أكثر من 1500 من عمال النسيج البنغال، كما تبين جريدة دير شبيغل الألمانية (29/4). فمالك المجمع محمد سوهل رانا، الذي ما زال في ريعان شبابه (30 سنة)، هو شخص متنفذ وثري وعضو في حزب «عوامي» الحاكم، ويمتلك مجمعين صناعيين آخرين في نفس المنطقة، إلى جانب امتلاكه لأراض كثيرة.

«رانا بلازا» وقت انهياره كان يضم خمسة مصانع للألبسة، وكان من المفترض أن يضم ثلاثة طوابق حسب رخصته، إلا أن المتنفذ رانا بنى خمسة طوابق إضافية من دون ترخيص، ليصبح المبنى من ثمانية طوابق، وكان العمل جارياً على قدم وساق لبناء طابق تاسع.

وقد لا حظ العمال شقوقاً في المبنى، وقبل يوم واحد فحص المهندس المسؤول المبنى وحذر المالك رانا من خطورة الوضع، إلا أن الأخير حذر عماله بالفصل إن هم تغيبوا عن العمل! وكان الحظ من نصيب العاملين في بنك براك، الذي يتخذ مقراً له في نفس المجمع، إذ قرر مديره إخلاء البنك قبل يوم واحد من وقوع الكارثة، فنجا هو والعاملون معه من موت محقق!

وحينما وقعت الواقعة، اختفى المالك محمد سوهل رانا عن الأنظار، وأقسمت رئيسة الوزراء الشيخة حسينة، أن قوى الأمن ستبحث عنه في كل مكان وستقدمه للعدالة. وفعلاً تم القبض عليه بالقرب من الحدود الهندية، إلا أن يد الشيخة حسينة، أو أي حكومة قادمة، مغلولة. فماذا عساها فاعلة بمصانع الملبوسات في البلاد وقد بني معظمها على نفس الطريقة، علماً بأنها توظف نحو أربعة ملايين شخص، وتدر على البلاد أكثر من 12 مليار دولار سنوياً!

وقد حققت بنغلادش منذ عقدين تقريباً تقدماً اقتصادياً ملحوظاً، فهي تنمو بمعدل 6% سنوياً، وتعتبر ثاني بلد في العالم في إنتاج الملبوسات وتصنيعها، فهي تنتج الملابس لكبريات العلامات التجارية في الولايات المتحدة وأوروبا، والتي تبيع الألبسة «الاقتصادية والرخيصة».

غير أن بنغلادش أيضاً تعاني من مشكلات اقتصادية لا يستهان بها، فعدد سكانها كبير (163 مليون) قياساً بمساحة أراضيها (143 ألف كيلومتر مربع)، ومعظم تلك المساحة عبارة عن دلتا لعدة أنهار، وهي أراض منخفضة عادة ما تغمر بالفيضانات والأعاصير التي كثيراً ما تضربها.

لا أرى حلاً لمشكلة صناعة الملبوسات واتباع شروط السلامة في بناء مصانعها أو في خدمات تلك المصانع، سوى أن تمد الشركات الأجنبية يد العون لشعب بنغلادش، فهذا واجب أخلاقي يقتضيه ما تجنيه هذه الشركات من أرباح طائلة، بفضل اليد العاملة البنغلاديشية الرخيصة.

 

Email