إفلاس الطبقة السياسية في لبنان

ت + ت - الحجم الطبيعي

انتخب مجلس النواب الحالي في لبنان، بعد توافق في مؤتمر الدوحة على استعادة قانون انتخاب صدر عام 1960، بعد إجراء تعديلات طفيفة عليه. وقدمت وعود كثيرة حول ضرورة تجاوز ذلك القانون، لأن من المعيب على الطبقة السياسية اللبنانية ألا تنتج قانون انتخاب عصري، يؤسس لمرحلة جديدة من الحياة السياسية على أسس ديمقراطية سليمة.

بيد أن السنوات الأربع المنصرمة من عمر هذا المجلس، مضت دون أن تتحلى القوى السياسية المتنازعة على السلطة، بالحد الأدنى من التوافق.

فلكل من التيارين السياسيين الكبيرين، أي جماعة 8 آذار وجماعة 14 آذار، حسابات انتخابية ضيقة، ضاعت معها مصالح الدولة العليا، واستحكم الخلاف حول جميع القضايا التي تهم اللبنانيين، ومنها بناء الدولة العصرية، وحماية المقاومة، وملء الشواغر الفادحة في الإدارة اللبنانية، وتنشيط الاقتصاد، وحماية حقوق العمال وعمل النقابات، وتخفيض الدين العام، وتطبيق بنود اتفاق الطائف، والموقف من الحرب الدموية المستعرة في سوريا منذ أكثر من عامين، والمواقف المتباينة بين الزعماء اللبنانيين تجاه التحالفات الإقليمية والدولية.

لم يبدأ البحث جدياً لإعداد قانون جديد للانتخابات النيابية في لبنان إلا قبل ستة أشهر، فشكلت لجنة خاصة لهذه الغاية لم تخرج بتوافق على قانون جديد، رغم التصويت بالأكثرية في اللجان البرلمانية على قانون يتبنى النسبية، وتنتخب كل طائفة نوابها وفق مبدأ المناصفة في عدد المقاعد بين المسيحيين والمسلمين.

بعد استقالة الحكومة الميقاتية وتكليف الرئيس تمام سلام بتشكيل حكومة «المصلحة الوطنية»، لم تبصر الحكومة النور رغم مرور أكثر من شهر على التكليف.

وفي 15 مايو 2013 بدأ السياسيون اللبنانيون عقد جلسات ماراثونية للجان البرلمانية المختصة، بهدف التوصل إلى قانون جديد للانتخاب.

فكثرت المزايدات الانتخابية التي باتت تهدد الأمن والاستقرار، وأضحى مشروع التمديد للبرلمان الحالي يسابق بازار المشاريع الانتخابية المطروحة.

 واستفحل الغموض السياسي بسبب غياب الرؤية الوطنية الجامعة، فلا حكومة جديدة في المدى المنظور، ولا يمكن عزل قانون الانتخاب وتشكيل حكومة جديدة عما يجري في سوريا.

فشل المجلس النيابي في أداء مهمته التشريعية، وتحول عمل النواب إلى مهزلة يومية غايتها التمديد للبرلمان الحالي، استناداً إلى تدابير خاصة هدفها تمديد ولاية المجلس لفترة زمنية ليست طويلة، حتى لا يتعرض لطعن المجلس الدستوري.

مع ذلك، تستمر القوى السياسية في مماحكات لفظية، في انتظار كلمة السر التي قد تأتي من خارج لبنان، منعاً لتفجير شامل يطال المنطقة بأسرها وهي تعيش أزمة مستعصية، أوصلت لبنان إلى حافة الانفجار.

مرد ذلك إلى غياب الحوار السياسي الجدي بين زعماء السياسة في لبنان، فقد تقاعسوا منذ سنوات عن الدخول في حوار حقيقي بشأن قانون الانتخاب، وغيره من القضايا التي تهدد استقرار لبنان وأمنه السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

لقد مارست القوى السياسية اللبنانية سياسة الانتظار والدوران حول الأزمات، دون السعي إلى حلها ومنع تفجرها. واستفاقت في الأيام الأخيرة التي سبقت انتهاء جميع المهل القانونية، لتمارس الخداع السياسي على الشعب اللبناني، عبر وسائل الإعلام.

وانتهت المسرحية بالدخول في فراغ قاتل يشل عمل جميع المؤسسات الدستورية والتنفيذية، بدءاً برئاسة الجمهورية ومجلس النواب، وصولاً إلى الغياب الواضح للسلطة التنفيذية، الموزعة حالياً بين حكومة مستقيلة وأخرى لم تتشكل بعد.

تشير جميع الصيغ المتداولة في وسائل الإعلام، إلى أن لبنان دخل في أزمة حقيقية، وهو بحاجة إلى تدخل قوى خارجية تضغط بقوة لمنع انفجارها. فالصراع على قانون الانتخاب زاد من صعوبة تشكيل حكومة جديدة، وتزداد خطورة الأزمة في حال استمر الخلاف على قانون الانتخاب، لا سيما لجهة تقسيم المحافظات، وعدد الدوائر، وإجراء الانتخابات مجدداً على أساس القانون السابق.

اللافت للنظر أن لجنة التواصل البرلمانية لم تكن تبحث فعلاً عن قانون انتخاب عصري، يساعد على إطلاق حياة سياسية على أسس ديمقراطية سليمة في لبنان، بل كانت الكتل تتبادل الاعتراضات على مشاريع القوانين المطروحة. ويمحور الخلاف حول مشروع قانون بني على النسبية وانتخاب كل طائفة لنوابها، ومشروع قانون مختلط يجمع بين النسبية والأكثرية.

وكل من المشروعين يتضمن ثغرات كبيرة، دفعت بكتل كبيرة إلى رفضه ومنع صدوره. وتبحث الكتل البرلمانية عن مصالحها بالدرجة الأولى، وليس عن مصلحة لبنان العليا، علماً بأن اللبنانيين يستحقون قانوناً عصرياً جديداً، يشكل منعطفاً إيجابياً في السياسة اللبنانية.

ليست هناك خارطة طريق واضحة تبرز مسار الحياة السياسية في لبنان خلال الأشهر المقبلة، فجميع الكتل البرلمانية متمسكة بمواقفها، ودخلت في بازار المزايدات وتبادل الوعود لتحقيق مكاسب مشتركة.

وبدا واضحاً أن مواقف بعض القوى داخل قاعة البرلمان، تختلف عن تصريحات مندوبيها لوسائل الإعلام، لكنها متوافقة، سراً أو علانية، على ضرب ركائز الديمقراطية التوافقية في لبنان.

فالتغير والإصلاح ليس وارداً في سجالات طبقة سياسية فاشلة، تغلب مصالحها الطبقية على مصالح اللبنانيين، ناهيك عن أن الأزمة اللبنانية اليوم شديدة الصلة بالأزمة السورية، وليس هناك ما يشير إلى قرب تشكيل حكومة جديدة في لبنان أو التوافق على قانون جديد للانتخاب، بمعزل عن انعكاس الأزمة السورية على الساحة اللبنانية.

الجميع في أزمة بعد أن فشلت محاولات الدوران حول المأزق السياسي، فوصلت إلى طريق مسدود، رغم المسرحية المملة التي شهدها اللبنانيون على مسرح البرلمان.

ويحرص الجميع على نوع من التوافق الشكلي لضمان الاستقرار، بعد استحالة التفاهم الإيجابي في ظل تناقض المصالح والحسابات والمشاريع.

ختاماً، بعد أن عجزت الطبقة السياسية، في المعارضة والموالاة معاً، عن إدارة شؤون اللبنانيين في مرحلة بالغة الخطورة على المستويين الإقليمي والدولي، دخل لبنان في فراغ دستوري يفرغ الحياة السياسية من مضمونها الوطني، والإصلاحي، والتنموي.

ويتخوف جميع اللبنانيين من تدخل خارجي لربط مصير لبنان بالتكتلات الإقليمية الجديدة، التي ترتسم حدودها في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، برعاية أميركية ــ إسرائيلية.

Email