أميركا وتنازلات الديمقراطيين

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقترح الرئيس الأميركي وقلة غيره من الديمقراطيين البارزين، بكل صراحة، أن يتم تخفيض مدفوعات برنامج "الضمان الاجتماعي" من خلال تطبيق تسوية تضخم أقل، وأن يقوم برنامج "ميدي كير" على أساس الدخل.

وهذا قبل أن يبدأ الديمقراطيون بخوض مفاوضات رسمية بشأن الميزانية مع الجمهوريين، الذين لا يزالون يرفضون زيادة الضرائب المفروضة على الأغنياء، أو إغلاق الثغرات الضريبية التي يعتمدون عليها (مثل خدعة "الفائدة المنقولة" التي يستخدمها مديرو صناديق التحوط والأسهم الخاصة)، أو زيادة ضرائب الأرباح الرأسمالية المفروضة عليهم، أو وضع سقف للتخفيضات الضريبية، أو فرض ضرائب على المعاملات المالية.

وليست هذه هي المرة الأولى التي تبدأ فيها الإدارة الأميركية بالتنازل، غير أن هذه التنازلات المسبقة بالذات تعتبر طائشة بشكل خاص، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية.

فكروا في الجانب الاقتصادي، فإصلاح برنامج "الضمان الاجتماعي" الذي تروج له الإدارة الأميركية، والذي يعرف تقنيا بـ"ربط السلسلة الزمنية لمؤشر أسعار المستهلك" من أجل إيجاد وسيلة بديلة لحساب التغيرات فيه، يقوم على الفكرة البديهية القائلة إن المستهلكين، عندما ترتفع أسعار بعض المنتجات، يتحولون إلى بدائل أقل تكلفة.

ووفقا لهذه الفكرة، فإن المتقاعدين، عندما يتعلق الأمر بتعديل مدفوعات "الضمان الاجتماعي" لمواكبة التضخم، لا يحتاجون للزيادة التي يحصلون عليها، بما أنهم، شأن معظم الناس، يستطيعون التحول لمنتجات أقل تكلفة.

لكن هذا يغفل جزءا رئيسيا من الواقع، فالمسنون، خلافا لمعظم الأميركيين الآخرين، ينفقون ما يتراوح بين 20% و40% من دخولهم على الرعاية الصحية، وهم لا يستطيعون التحول إلى بدائل أقل تكلفة، إما لعدم وجود تلك البدائل أو لأنهم ليسوا في وضع يسمح لهم بالتسوق بحثا عنها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تكاليف الرعاية الصحية ترتفع بسرعة أكبر بكثير مقارنة بمعدل التضخم.

وبالتالي فإنه حتى تسوية التضخم المستخدمة حاليا لإصلاح برنامج "الضمان الاجتماعي"، تستهين بالنسبة الكبيرة التي يلتهمها التضخم من المدخرات الضئيلة الخاصة بمعظم كبار السن.

والحقيقة هي أن "الضمان الاجتماعي" يعد الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى، فالمعاشات التقاعدية الخاصة التي تقدم فائدة شهرية معينة، تلاشت تقريبا. والمنازل التي افترض كثير من المتقاعدين أنهم سيستفيدون من بيعها حين يتوقفون عن العمل، أصبحت أقل قيمة بكثير.

ولم يدخر معظم المتقاعدين ما يكفي من المال، وهو السبب في أن الكثير من الأميركيين يؤجلون تقاعدهم (ويسدون الطريق أمام الأشخاص الأصغر سنا منهم). "الضمان الاجتماعي" هو الشيء الوحيد تقريبا، الذي يستطيع العديد من كبار السن الاعتماد عليه.

وليس هذا البرنامج مسؤولا عن عجز الموازنة، فهو يشهد فائضا منذ عقود، وقد استخدمت الحكومة الفيدرالية ذلك الفائض لدفع فواتيرها الأخرى.

 ويمكن للصندوق الائتماني الخاص ببرنامج "الضمان الاجتماعي"، أن يفيض على مدى السنوات الـ75 المقبلة، مع مجرد تغييرات طفيفة ليس من شأنها خفض المدفوعات المقدمة لكبار السن.

والحجة ضد "إصلاح" الرعاية الصحية من خلال الحد من تدفق المنافع إلى المستفيدين ذوي الدخول الأعلى، تعتبر واهية بالدرجة نفسها تقريبا، إذ يتمثل السبيل الوحيد لجني وفورات كبيرة من إسناد برنامج "ميدي كير" إلى أساس الدخل، في تقليل المنافع التي من شأنها أن تذهب إلى العديد من المتقاعدين متوسطي الدخل. ولكن هؤلاء الأشخاص يتأثرون بارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، بقدر ما يتأثر بها نظراؤهم من ذوي الدخول المنخفضة تقريبا.

وإلى جانب ذلك، فإن "ميدي كير" لا يمثل المشكلة الحقيقية، إذ يتوقع لتكاليفه أن ترتفع بشدة، لأن تكاليف الرعاية الصحية عموما ترتفع بسرعة.

وتشكل تكاليف "ميدي كير" الإدارية، جزءا بسيطا من تكاليف شركات التأمين الصحي الخاصة. لذا فإن هذا البرنامج، بدلا من التفكير فيه باعتباره مشكلة، يمكن أن يكون جزءا من الحل. ومن شأن تعميم "ميدي كير"، أو جعله خيارا عاما، أن يعطيه الثقل الكافي للمطالبة بانتقال مقدمي الخدمات الصحية من نظام الرسوم مقابل الخدمة، إلى نظام الدفع لقاء النتائج الصحية.

وفي ظل السيطرة بشكل أفضل على تكاليف الرعاية الصحية، لن يدفع المتقاعدون جزءا كبيرا ومتزايدا من دخولهم على الرعاية الصحية. يعتبر "الضمان الاجتماعي" و"ميدي كير" أكثر البرامج الموضوعة من قبل الحكومة الفيدرالية شعبية، ومن أكثرها نجاحا، إذ خفّض هذان البرنامجان، معا، مستوى الفقر بين المسنين في أميركا بصورة دراماتيكية، الأمر الذي يمثل أحد أعظم انتصارات العصر الحديث.

ومع ذلك، فقد دأب الجمهوريون، منذ إنشاء برنامج "الضمان الاجتماعي" عام 1935 وبرنامج "ميدي كير" بعده بـ30 عاما، على محاولة التخلص منهما. وإذا وثق الأميركيون العاديون بأن يفعل الحزب الديمقراطي شيئا واحدا على مر السنين، فإن ذلك الشيء هو حراسة هذين البرنامجين من اعتداءات الحزب الجمهوري.

Email