تفاقم الأزمة الاجتماعية في لبنان

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتبر النظام السياسي اللبناني من الأنظمة الديمقراطية المثيرة للجدل، فقد بني على المحاصصة الطائفية، تحت ستار ضمان العيش المشترك وتهدئة الصدامات الطائفية المستمرة برعاية خارجية، منذ أواسط القرن التاسع عشر. لكن تلك الصيغة عطلت قيام دولة مركزية عصرية، تستطيع مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والإدارية وحتى العسكرية، القيام بعملها بصورة طبيعية.

ومن أجل دوام سيطرتها على مقدرات الدولة والمجتمع، تفتقت عبقرية القوى السياسية المسيطرة، عن مفهوم "الديمقراطية التوافقية" التي لا تزعج أيا من زعماء الطوائف، خشية أن ينفرط عقد الدولة المركزية لصالح زعماء الطوائف والميليشيات المسلحة.

تجدر الإشارة إلى أن صيغة الحكم السياسي على أسس طائفية وبرعاية أجنبية، ساهمت في استقرار المجتمع اللبناني الذي شهد مرحلة من البحبوحة الاقتصادية، في ظل متصرفية جبل لبنان من 1861 وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وتم الترويج لشعار "نيال من له مرقد عنزة في جبل لبنان".

وبعد تبني صيغة "الميثاق الوطني" على أسس طائفية منذ استقلال لبنان السياسي عام 1943، تم الترويج لمقولة "لبنان سويسرا الشرق"، نظرا لاتساع حجم الطبقة الوسطى إلى أكثر من 70% حتى انفجار الحرب الأهلية عام 1975.

بيد أن تلك الحرب استمرت حتى 1989، وما زالت آثارها السلبية تتفاعل. وقد عرت الركائز الهشة للاقتصاد اللبناني القائم على الخدمات، والسياحة، والمضاربات العقارية، وإعادة التصدير، وتكديس الأموال في صناديق البنوك دون توظيف سوى نسبة ضئيلة جدا منها في دعم القطاعات المنتجة وقوى الإنتاج فيها. ومع تفاقم الآثار السلبية للحرب، باتت النتائج اليوم كارثية على مستوى بناء الدولة، وحماية المجتمع، وتنشيط الاقتصاد.

فقد غابت مؤسسات الدولة المركزية، بعد أن تفكك الجيش اللبناني والتحقت مجموعات منه بميليشيات الحرب الأهلية بقيادة زعماء الطوائف المتناحرة. وشجعت تلك الميليشيات اقتصاد الظل، بكل ما فيه من صفقات غير مشروعة، وتجارة المخدرات، والمضاربات العقارية، والاعتداءات المتلاحقة على أملاك الدولة. وتراجع نظام القيم الأخلاقية مع تراجع مستوى التعليم، والخدمات الثقافية، والأبحاث العلمية.

وأصيبت المؤسسات السياحية بأزمات دورية، أدت إلى توقف الكثير منها. وضربت قوى الإنتاج الحقيقي، لصالح قوى الخدمات الريعية والكسب السريع. وتم تكديس الأموال في البنوك، التي باتت تمول الدولة التي لعبت الدور الأساسي في تضخيم الدين العام الذي تجاوز الستين مليار دولار.

أدت تلك السياسة إلى ضرب الطبقة الوسطى بصورة منهجية، إلى أن تقلصت نسبتها من أكثر من 70% قبل بداية الحرب الأهلية، إلى قرابة 23% في المرحلة الراهنة. واستغلت الطبقة السياسية الحاكمة ظروف الحرب، لتضرب وحدة الحركة النقابية في لبنان، وتهمش قياداتها.

وبعد أن أصيبت مؤسسات الدولة المركزية بالشلل، تراجعت نسب النمو الاقتصادي، وتعرضت الطبقات الفقيرة والمتوسطة إلى التسريح الكيفي، والبطالة، والإفقار المتواصل.

وطالت الأزمة الاقتصادية حياة غالبية اللبنانيين، ومست كراماتهم الشخصية، في جميع الطوائف والمناطق. وبات السلم الأهلي مهددا، بعد أن برز تحالف وثيق بين زعماء الميليشيات والقوى الطائفية المسيطرة على الدولة، مع دول إقليمية وعالمية تلعب دورا أساسيا في تأزيم الأوضاع في لبنان.

فلم تعد القوى السياسية اللبنانية قادرة على تشكيل الحكومة، أو التوافق على قانون موحد للانتخاب، أو ملء الإدارات بالموظفين، أو حل أي من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تواجه اللبنانيين. وباتت المؤسسات التشريعية والتنفيذية والعسكرية والإدارية، عرضة للتمديد مع احتمال الفراغ على مختلف الصعد.

وأوكلت القوى السياسية اللبنانية مصير لبنان إلى توافق إقليمي ودولي لم يتبلور حتى الآن، وما زال عاجزا عن إيقاف الحرب المستمرة في سوريا منذ سنتين. وبعد أن استقبل لبنان أكثر من مليون لاجئ سوري، فإن استمرار الأزمة السورية سيؤدي إلى نتائج كارثية على القوى العاملة والاقتصاد في لبنان. كما أن المراهنات على الخارج لا تحمي اللبنانيين، بل تجعل المجتمع اللبناني عرضة لكل أشكال الاستغلال الاقتصادي، نظرا لكثافة الاصطفاف المذهبي.

بقي أن نشير إلى أن الاحتفال بعيد العمال في الأول من مايو عام 2013، شكل مناسبة هامة لإطلاق الكثير من الدراسات العلمية، التي أكدت أن الطبقات الفقيرة والمتوسطة في لبنان تواجه أزمات اقتصادية واجتماعية حادة. فقد تراجعت نسبة الأجور من مجمل الناتج المحلي، من 55% في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية إلى أقل من 25% عام 2012، وبحجم من التراجع تجاوز الإثني عشر مليار دولار بالأسعار الجارية، مقارنة بالعام 1974.

وهذا مؤشر بالغ الدلالة على المستوى الاجتماعي، لأنه يعبر عن سياسة مبرمجة لإفقار الطبقة العاملة وزيادة مستوى استغلالها، وإضعاف الطبقة الوسطى بصورة حادة أدت إلى زعزعة بنية المجتمع اللبناني، وقادت إلى تهجير أعداد كبيرة من اللبنانيين الذين يدخلون سنويا سوق العمل.

ويشير بعض الدراسات إلى أن 46% فقط من اللبنانيين الذين يشاركون في النشاط الاقتصادي داخل لبنان، يتوزعون في سوق العمل على الشكل التالي: ثلاث نساء من كل أربع يعملن، وشاب واحد من كل ثلاثة عاطل عن العمل، و29% فقط من الأُجراء يعملون في قطاع يضمن لهم خدمات الصحة، والتعليم، وطوارئ العمل، والشيخوخة، مقابل أكثر من 50% من القوى العاملة بدون حماية أو خدمات أو ضمانات. ختاما، تواجه الطبقات الفقيرة والمتوسطة في لبنان، أزمات متلاحقة في غياب دولة مركزية تحصن لبنان من تأثير الأزمات الإقليمية المتفاقمة، وتأثيراتها السلبية البالغة الخطورة على الدولة والمجتمع والاقتصاد فيه.

وفي ظل هذه الأوضاع والأزمات، تخوض هيئة التنسيق النقابية نضالا مفتوحا لإقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة في القطاعين العام والخاص، وتلوح بخطوات تصعيدية شاملة بعد أن كسرت حاجز الخوف، ونزل اللبنانيون بكثافة إلى الشارع دفاعا عن حقوقهم المهدورة، ورفضا لسياسة تحميل الفقراء فساد النظام السياسي والاقتصادي والمالي والضرائبي في لبنان.

ففتحت المعركة على مصراعيها لبناء إدارة متطورة، ومحاربة الفساد، وإلزام الهيئات الاقتصادية وجمعية المصارف بالتوظيف في القطاعات المنتجة، التي تحصن الاقتصاد اللبناني وتولد فرص عمل تساعد على بقاء شباب لبنان في وطنهم.

Email