بعد أكثر من عقد على انفجار الصدام بين الإرهاب من جهة، وحديث الأصوليات الدينية حول العالم من جهة ثانية، صحت الولايات المتحدة الأميركية من جديد، بعد تفجيرات بوسطن وما تلاها من إعلان أميركي داخلي عن مطاردة لخلايا إرهابية نائمة، على عودة الحديث إلى المربع الأول بين أصوليات متناحرة، وإرهاب يضرب دون تمييز، وإسلاموفوبيا بغيضة تجد من يروج لها.. فهل نحن في مواجهة الجزء المكمل من هذا الصراع المرير؟
حتماً أن الأصوليات غير قاصرة على دين بعينه أو جماعة بشرية بذاتها، غير أن هناك من يجيد الترويج السلبي لأصوليات الآخر، ويتخذ منها ومن أفعال بعض مريديها، ذرائع لتمرير أجندته الفوق أصولية.
وإذا كانت أحداث نيويورك وواشنطن عام 2001، قد رسخت لفكرة الإرهاب الإسلامي ومراكزه الأصولية، فإن قليلين من المحللين الموضوعين لفتوا الانتباه إلى الأصولية المسيحية الأميركية، القائمة عند نهر بوتوماك وسط الساحل الشرقي للولايات المتحدة، والتي أفرزت حربين كبيرتين علنيتين في أفغانستان والعراق، وأخرى مستمرة غير معلنة منذ ذلك الوقت، في مواقع ومواضع مختلفة حول العالم، بدعاوى مطاردة الإرهاب والإرهابيين.
على أن حادثة بوسطن، سوف تقحم أطرافاً جديدة في المشهد الصدامي، ذلك أن جنسية المتهمين في التفجيرات الأخيرة وأصولهما الشيشانية، ستؤجج نيران الصراع الديني والأصولي السلافي في روسيا الاتحادية، وفي مواجهة جمهوريات آسيا الوسطى ذات المسحة الإسلامية.
ولهذا كان من الطبيعي أن نشهد اتفاقاً روسياً أميركياً سريعاً على مواجهة الإرهاب في طبعته الجديدة، والمرتكزة في الأصل على صراع أجندات دوغمائية، لا تقبل المساومة أو المواءمة، على أنها المطلق الذي لا ينازعه النسبي في برنامجه لتحويل العالم..
ويلفت الانتباه في الموجة الجديدة من الصراع، والتي نحن ولا شك في أول المخاض ومبتدأ الأوجاع منها، أن هناك من يسخرها تسخيراً ولو قسرياً، من أجل إدراك غايات سياسية لا تغيب عن ناظري المحقق والمدقق لما يجري.
خذ، مثلا، ما ذهب إليه مؤخراً أحد أقطاب الأصولية الأميركية، وإن كان يهودي الديانة أميركي الجنسية، وهو "دانيال بايبس" المحافظ بتطرف، وكيف أنه حاول، ولا يزال، الانطلاق من حادثة بوسطن، والقفز على الأحداث إلى ما يجري في سوريا، ودعوته لدعم نظام الأسد في مواجهة التيارات الجهادية والقاعدة، التي يرى أنها تملأ سماوات وأرض سوريا.. هل يدعو بايبس إلى نصرة الأسد حباً فيه، أم كراهية في الأصولية المتمسحة في الإسلام، وإن كان الإسلام السمح المعتدل منها براء؟
مبررات بايبس تأخذنا مأخذاً مثيراً في الفهم والإدراك، إنه يدعو واشنطن لمساندة بشار الأسد إلى حين، بمعنى حتى يقدر له القضاء على الأصوليين الإسلاميين، ومن بعد يكون نظام الأسد، لا سيما أن ما تفعله جبهة النصرة في سوريا في تقدير بايبس، لا يختلف كثيراً عن الذي جرى في شوارع الماراثون الأميركي.
هل هذه عملية إحيائية لأصولية "البوتاماك" من جديد؟ يبدو أن هناك انعطافة خطيرة ومثيرة تجري في أروقة ودهاليز الإدارة الأميركية الأوبامية، تجاه الشرق الأوسط "الإسلامي"، الذي دعمته واشنطن عبر ما عرف بالربيع العربي.
وليس أدل على صدقية هذا الحديث، من تقرير وزارة الخارجية الأميركية الأخير، الذي حمل وجهة نظر متشائمة من المسيرة الديمقراطية في المنطقة.
وهذا يعني أن الأصوليات الشرق أوسطية، لا مكان فيها لهذا النسق من أنظمة الحكم، وبنفس القدر، تتجاوب الأصولية الأميركية في الحال والاستقبال، بردات أفعال تتجاوز في ضرها وخسائرها آلاف المرات، ما أقدم عليه الشابان الشيشانيان.
يعن لنا في هذا المقام طرح علامة استفهام، لماذا صراع الأصوليات على الأراضي الأميركية تحديداً، وكأن المسألة برمتها قدر مقدور في زمن منظور؟ ولماذا لا تتعرض أوروبا لمثل تلك الاختبارات والمواجهات الأصولية الموجعة؟
أغلب الظن أن الأمر لا يتعلق بأميركا كونها الإمبراطورية المنفلتة حول العالم، بقدر ما يتصل ويتسق مع كون الخطاب السياسي في الولايات المتحدة الأميركية، وعلى خلاف أوروبا، يدار بطريقة دينية أيضاً، وهذا ما فتح الباب أمام الأصوليين الأميركيين لربط أفكارهم بفكرة الطابع الأميركي، الذي يتيح ربط الأمة بـ"الرب"، والسعي لتحقيق السعادة بالبحث عن القدسية، والمصير المحتوم بمملكة الرب المستقبلية، وبالأزمنة الصالحة القديمة.
أيعد هذا المنظور الأصولي الأميركي أداة جذب ومصيدة لأتباع الأصوليات الأخرى، ولهذا يجب النزال هناك معركة تلو الأخرى؟ يخشى المرء أن يكون ذلك كذلك، لا سيما أن التبعات ستكون من جديد "سياسة تستغل الرموز الدينية"، في صراعات مصالح اقتصادية وسلطوية، تتم ترجمتها وتحويلها إلى صراعات قيم، أو بالأحرى صراعات هوية.. فهل نحن في نهاية المشهد أمام صراع الهويات الأصولية القاتلة، وليس صراع الإرهاب العنيف؟.