المسلمون وصناعة «الكهنوت الشعبي»

ت + ت - الحجم الطبيعي

لحظة من فضلكم.. هل فيكم من يتابع أحيانا القنوات الدينية السابحة في الفضاء؟ هل تدهشكم نوعية الأسئلة التي يلقيها المشاهدون أو يبعثون بها إلى "المفتين الفضائيين"؟..

هل مهنة حلاقة الذقن حلال أم حرام؟ هل ركوب المرأة التاكسي مع سائق أجنبي خلوة محرمة؟ هل لعب كرة القدم والمصارعة من المحرمات؟ هل شراء الآلات الموسيقية وأسطوانات الغناء حرام أم حلال؟ ما حكم دخول المرحاض بأشرطة القرآن، والسفر في الفضاء، والوصول إلى القمر والجلوس بجوار أجنبية في الطائرة.. الخ؟!

والسؤال: هل من حق أي إنسان أن يفتي في الدين للآخرين مهما كان علمه.. أم أن تُقصر الفتوى على جهة متخصصة مكلفة بهذ الأمر؟

يبدو العالم الإسلامي في حالة فوضى دينية، دعاة يفتون في مساجد وجوامع وزوايا، فضاءات تفتي، أمراء جماعات دينية تفتي.. بل تجاوز الأمر إلى أن بعض الدعاة يصدر أحكاما بإهدار الدم، كما حدث من داعية شهير قبل أيام، أفتى برجم الفنانة إلهام شاهين.. لماذا؟ لأنها تجرأت وقاضت داعيا سبها في شرفها وحكم القضاء بسجنه سنة!

ما هذا؟ قطعا هو تجسيد لأحوال المسلمين، وهي أحوال في أغلبها لا تسر عدوا ولا حبيبا: فقر وجهل وتواكل، وضعف اقتصادي، وحروب أهلية، وحريات مهضومة، وحقوق ضائعة، وأزمات طائفية.. كل هذا مغلف بتشنج ديني زاعق.

والسؤال: هل يمكن للمسلمين أن يتوقفوا لحظة أو ساعة أو يوما، ويتأملوا حياتهم ويسألوا أنفسهم: لماذا هم على هذه الأحوال بينما العالم من حولهم شرقه وغربا، يبحث ويدرس ويتعلم ويتطور ويقفز بأكبر طاقة ممكنة؟

الإجابات عن هذه التساؤلات المشروعة قد تفتح لهم طاقة نور، بشرط أن يبحثوا عن الأسباب بأنفسهم ولا ينتظروا شيخا أو داعية أو واعظا أو مفتيا، يأخذ بأيديهم إلى الإجابات الضرورية.

الأسباب في تصوري - تشبه الطفيليات الشرسة - كامنة في جزء غير قليل من ثقافة المسلمين المتوارثة، سواء الحديثة أو في الكتب القديمة التي ينقلون منها مباشرة نقلا حرفيا، دون تمحيص أو تفكير أو تحليل, كما لو أنهم يتعاملون مع كتب مقدسة، أو أن الذين كتبوها أو فسروها هم "منزلون من السماء" ولا ينطقون عن الهوى.

وهذه الثقافة استولت على عقل أعداد كبيرة من المسلمين، وأغلقته بالضبة والمفتاح على نفسها, وحولته إلى "حصن" يصد كل رياح الحداثة والتطور، متوهما أنه بذلك "يحافظ" على هويته وشخصيته المتفردة، من الذوبان والتلاشي في الثقافة الحديثة المنحلة، فينقلب أدبه إلى قلة أدب وتفسد مكارم الأخلاق التي يتمسك بها إلى عفونة، كما في الغرب المتحرر عديم القيم والأخلاق!

بل إن نفرا كبيرا من الذين تعلموا وخرجوا ودرسوا وراحوا وجاءوا، لم يستطيعوا إخراج عقولهم من "حصن" الماضي الذهبي، إلا في اللحظات أو الأوقات التي يحتاجون فيها لاستخدام المعارف الحديثة التي تعلموها، ثم يفرون بها عائدين إلى الكهف.. وهم يتصورون أنهم يجمعون بين الحسنيين: معارف العصر المتغيرة الخاضعة للتمحيص والدهشة التي تفتح لهم أبواب الدنيا..

ومعارف الماضي المنقولة حرفيا دون تفكير التي تفتح لهم أبواب الجنة.. دون أن ينتبهوا إلى أن معارف الماضي تُضيق الخناق على معارف العصر وتحاصرها، فلا تستطيع أن تبدل حياتهم تبديلا جوهريا..

 ليتمتعوا بحرية في التفكير والتدبير والتصرف، حرية تطلق عقولهم من أسرها إلى آفاق قادرة على الابتكار والإبداع، وهما عنصران لازمان لأي تطور حضاري، عنصران عمل بهما المسلمون طويلا منذ عصر عمر بن الخطاب حتى منتصف الدولة العباسية، وحين تخلوا عنهما واستقروا على شواطئ الثقافة المنقولة فقط، سقطت الدولة العباسية تحت سنابك خيول المغول بسهولة شديدة.

باختصار، اخترع المسلمون "كهنوتا شعبيا" من رجال الدين والموروثات القديمة التي ليس فيها من صحيح الإسلام إلا القليل، فخلقوا حالة عامة كالتي عاش فيها الأوروبيون المسيحيون في القرون الوسطي تماما، وكان رجال الكهنوت في تلك العصور يتمتعون بالسطوة والقوة، ويغرفون الأموال من البسطاء والأغنياء باسم السماء، ومن أجل الحفاظ على تعاليمها ضد العقول الجديدة والأفكار الجديدة التي تريد أن تخرب المسيحية وتفسد روحها.

والمسلمون يعيشون نفس الحالة الآن، باسم الصحوة الإسلامية..

وقبل أن يتصور أحد أنني أدعو إلى هجر الدين وتركه إلى علوم العصر، فهذا ليس مقصدا ولا يمكن أن ننادي به، فالحياة دون تدين فيها كثير من القبح والشر، لكن ثمة فارقا بين التدين والتديين، التدين عقل والتديين انفعال، التدين وعي، والتديين عماء.. التدين جوهر وعمل وسلوك، والتديين شكل ومظاهر وطقوس فارغة من معانيها الراشدة..

وشيوع التديين سببه "الكهنوت الشعبي".. بينما الإسلام دعوة لاستخدام العقل، وتحريض على التفكير العلمي المنظم, وتمرد على الكهنوت. فالرسالة موجهة من الله عبر رسوله الكريم لكل البشر أجمعين، ولم يخص بها العلماء ورجال الدين باعتبارهم الأكثر علما ومعرفة لينقلوها إلى الناس، فالبشر سواسية أمام الله، العالم والجاهل، والجاهل مسؤول عن جهله، وليس عما يقال له من دعاة الفضائيات وبعض أئمة المساجد أو سماسرة الفتاوى..

فالمسؤولية في الإسلام فردية تماما، وكل امرئ معه كتابه بيمينه، وليس شيخه ولا مفتيه ولا داعيته!

Email