أدخلت الأزمة النووية الكورية، العالم مجدداً أمام الهلع المطلق. وسواء رست هذه الأزمة على مستقر تفاوضي أم لا، فقد فتحت باب العلاقات الدولية على جدل غير مسبوق، بدا فيه السلاح اللاّمتناهي عاملاً مقرراً في حسم الاتجاهات المقبلة للخلل الحاصل في النظام العالمي.

بعض "المغالين" من المشتغلين في الفكر الاستراتيجي، ذهبوا إلى طرح السؤال التالي: ماذا لو تحول الإشكال النووي إلى إشكال فلسفي؟ الكثيرون سيقولون: وما صلة هذا الأمر بذاك؟ فالإشكال النووي يقتل، بينما الإشكال الفلسفي يعيد إحياء الكلمات المكتظة بالوجود. لكن المسألة ليست على هذا القياس الصارم، فلقد باتت القضية النووية أدنى إلى قضية تثير الأبعاد القصية في حياة الإنسان المعاصر.

قبل بضعة عقود توقف المفكر العسكري الفرنسي وصاحب الأطروحة الشهيرة في "الفكر والحرب"، جان غيتون، أمام غرائبية العصر النووي، وراح يتأمل ويكتب بلغة الفيلسوف: "عندما يلجأ مؤرّخو المستقبل البعيد إلى تقويم العصر الذي نعيش فيه في الوقت الحاضر، سيكون أمامهم موضوع يصعب التفكير فيه، وسيقولون بشيء من عدم اليقين: "كان ذلك الزمن زمن تحوّل كبير" وتبديل في العصر مماثل للعصر الذي اكتشفت فيه النار، وكان عصراً رائعاً أكثر بسبب نتائج النار في الأعماق.. النار النووية".

لقد أثرت سلسلة من التغيرات الضخمة خلال العقدين المنصرمين، على شكل آليات تطور النظام الدولي، وحين انهارت الدولة السوفيتية أمام الولايات المتحدة الأميركية، لم يعد جائزاً الحديث عن توازن للقوى بمعناه الكلاسيكي. ومع ذلك لا يزال النظام العالمي الجديد الذي تصوره الأميركيون بعد حرب الخليج، غير محدد المعالم إلى درجة كبيرة. وما يمكن أن يقال بقدر من الثقة، هو أن عدة مواقع تشتعل فيها الأزمات في العالم، من المرجح أن تشغل الدول الغربية التي لديها قدرات عسكرية استثنائية في بدايات القرن الواحد والعشرين.

لقد دخل العالم كله منذ نهاية الحرب الباردة قبل نحو ربع قرن، في ما يشبه التكسُّر المفتوح لأنظمة الأمن. لم يعد الأمر مقتصراً على السباق الدولي لتخزين وتوطين الأسلحة التقليدية، بل امتدّ هذا السباق ليشمل التوطين النووي، ليس لأغراض مدنية وحسب، وإنما لأغراض عسكرية أساساً، كما هو حاصل في المثالين الكوري والإسرائيلي. ومع هذا التطور بدا العالم تائهاً في فضاءات الهلع النووي، من دون أن يتمكن "المجتمع العالمي الجديد" من إقامة نظام يعيد الاعتبار لنظرية توازن الرعب.

كان بديهياً، وبحكم سيرورة التحول في ميزان القوى العالمي، أن يبقى الغرب (الولايات المتحدة الأميركية أساساً) على حيويته في تقرير مصير وإدارة الشأن الدولي، وقد استخدمت الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة، استخداماً بارعاً في إعادة تأليف وإنتاج نظام دولي وحيد القوة. وربما لهذا السبب ذهب عدد من الاستراتيجيين، إلى أن درس حرب الخليج كان بليغاً بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، التي تضع في مقدم أولوياتها الحؤول دون قيام محاور نووية خارج النطاق الجيوستراتيجي لمنظمة بلدان حلف شمالي الأطلسي.

لم يبدُ صائباً الرأي القائل بأن نهاية الثنائية القطبية قد قرّبت إلى حد كبير المسافة لحل المنازعات الإقليمية والدولية، بدليل التطورات الأمنية والسياسية التي ستحدث فيما بعد. كانت حجة هذا الرأي تستند إلى جملة عوامل زامنت نهاية الحرب الباردة، أهمها ما يلي:

1 ـ سقوط مقولة ميزان القوى، بالمعنى الذي تشكلت فيه على قاعدة التوصيف التاريخي الذي أطلق على الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، وأخذ مصطلح «التوازن بين الجبارين».

2 ـ كان الأمن في العقود الماضية يحدد بالمعيار الضيِّق للحرب الباردة والعلاقات الثنائية بين الدولتين العظميين، أما الآن بعد انهيار إحدى هاتين الدولتين، فقد أصبحت مشكلات الأمن محصورة في النطاق الإقليمي، وكلما وجدت فجوة أمنية أكبر فإنَّ القوة العسكرية للولايات المتحدة ستحدِّد بقدرٍ كبير، شكل النظام الأمني الذي ستؤول إليه الأحداث.

3 ـ أن أحد الوجوه اللافتة للتطور العالمي، هو أنه لم يعد واضحاً التمييز التقليدي بين البلدان المتطورة الغنية والبلدان النامية والفقيرة. وبحسب المؤرخ الأميركي ل.س. ستافريانوس، فإن ظروف العالم الثالث ومؤسساته أخذت بالانتشار على نطاق واسع في العالم الأول، وإن العالم آخذ في التكامل وخلق الظروف الملائمة لقيام اقتصاد السوق العالمي.

4 ـ قبل الحرب الباردة كان الانتشار النووي وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، مضبوطاً ضمن التقسيم الجيوستراتيجي بين القطبين اللذين يتقاسمان الأمن العالمي. وكانت لمجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، القدرة على ضبط التوتر الدولي عند حدود الاتفاقات المعقودة. لكن هذا الانتشار انفلت من عقاله، إذ بات بيع وتصدير المادة النووية، وخصوصاً تلك التي تُستعمل لأغراض عسكرية، مباحاً من جانب الدول المالكة، ولا سيَّما الفارطة من الاتحاد السوفيتي السابق، ناهيك عن الصين وكوريا الشمالية، حتى دخول باكستان والهند على خط التجارب النووية وسباق التسلح والبيع والشراء.

لقد دخلت مقولة الردع في أساسيات نظام توازن الحرب الباردة، بل شكلت المقوم الرئيسي لاستقرار الأمن الدولي، ولا سيما لجهة منع نشوب حرب نووية كونية مدمرة. لقد كان جان غيتون محقاً حين رأى أن الشكل الذي أخذته الحرب الباردة، في السلم وفي النزاع، هو صفة كونها "ذرية" و"سيبيرنطيقية" في الوقت ذاته، وهي تضع في الحساب اعتبارات مادية (القوات المسلحة) واعتبارات نفسية (القيم) والحقيقة. يضيف: إن الحرب راهنت دائماً على رافعتي القوة والخوف، وكانت القوة المادية ملحقة دوماً بالقوة المعنوية. فالانتصار يعني إرهاب الخصم، وإذا ما تمّ التوصل إلى الانتصار من دون عمل فإن الحرب تتوقف، وتسمى هذه الفترة عندئذ بالسلم، الذي كان منذ القديم سلماً مسلحاً، أي سلماً مستنداً إلى الخوف المتبادل، وسيستمر هذا الوضع حتى تتطهر البشرية وتتحد.

مع بدايات القرن الحادي والعشرين تبدَّلت زوايا النظر للقضية النووية، فقد عادت هذه القضية مجدداً لتحتل دوائر التفكير الاستراتيجي، على المستويين الإقليمي والعالمي. وما ذاك إلاّ لأن العالم على الجملة، بات يمكث في المنطقة الوسطى بين زمنين، وهي على وجه التحديد منطقة رمادية يشوبها الكثير من التعقيد والاضطراب. وذلك مرجعه إلى خواء العلاقات الدولية من ناظم يحتوي النزاعات، ومن ضابطٍ مرجعيٍ على نطاق عالمي متوازن، يحدد لها درجة صعودها وهبوطها، على النحو الذي كان سائداً على امتداد نصف قرن من الحرب الباردة.