تعثر المعارضة السياسية السورية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما تتعدد الفصائل السياسية التي تقوم بالثورات عند انطلاقتها، ويشكل كل حزب أو تيار سياسي مشارك في الثورة، أحياناً كثيرة، فصيلاً لوحده، يتآلف أو يتباين مع الفصائل الأخرى، إلا أنه، وكما كان الحال في معظم ثورات الشعوب، ما تلبث هذه الفصائل أن تتوافق أو تتوحد تحت قيادة واحدة، وتتبنى أهدافاً واحدة.

حدث ذلك، مثلاً، في الثورة البلشفية قبل مائة عام، والثورة الصينية قبل سبعين عاماً، والثورة الجزائرية قبل خمسين عاماً، والثورة الفيتنامية في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وفي غيرها.

وقد بدأت هذه الثورات وفصائلها غير موحدة الهدف والبرنامج والقيادة، وما لبثت بعد عدة أشهر أو أكثر قليلاً، أن وحدت برنامجها، وتوافقت على قيادة واحدة أوكلت إليها إدارة النضال السياسي أو النضال العسكري، أو كليهما، أو التنسيق بينها على الأقل، إذ لم يكن مقبولاً ولا مجدياً أن تدير عدة فصائل سياسية فعاليات الثورة دون أن تتحد.

أما الثورة السورية، فقد بدأت بوجود فصيل سياسي أو فصيلين سياسيين مع حراك شعبي عفوي عظيم، وبعد أشهر من انطلاقتها فرّخت هذه الثورة عشرات الفصائل السياسية، وكل منها يدعي "وصلاً بليلى"، ولم تجمعها ـ حتى الآن ـ قيادة موحدة، كما لم تتفق على أهداف واحدة واضحة مفصلة تجاه النظام أو لما بعده، وبقيت الفصائل السياسية المشاركة في الثورة، متعددة، منفصلة، مبعثرة، لا يربطها رابط، لا أيديولوجي ولا سياسي ولا نضالي، ولا يقل تنافر بعضها مع البعض الآخر أحياناً، عن تنافر بعضها الثالث مع النظام.

وبسبب هذا الواقع، أتيحت الفرصة لمن هب ودب ليزعم أنه معارض، ويتبنى اسماً ثورياً، ويطلب من جهات محلية أو خارجية أن تتعاطى معه على هذا الأساس، بل إن بعضها سمى نفسه تياراً معارضاً للنظام، وتسلم قادته في الوقت نفسه مناصب سياسية، ووزارات في الحكومة التي يعارضونها، ولم يتفهم السوريون بعد، كيف تكون هذه التيارات معارضة وشريكة في الحكومة في آن واحد! في سوريا وخارجها الآن، اثنا عشر فصيلاً معارضاً (فعالاً)، وأعداد كبيرة من الفصائل المعارضة الأخرى التي لا فاعلية لها لأنها غير جدية، وكل منها في النهاية هو مجموعة من الأفراد الذين شكلوا "حزباً" أو "تياراً معارضاً"، لا يملك من المعارضة أي معيار سوى زعمه أنه معارض، وربما كان الهدف الأساس هو أن يتقرب قادته من السلطة، أو يتكسب بعض المساعدات من دول أخرى.

من الفصائل المعارضة التي يمكن تصنيفها كذلك، في الخارج: ائتلاف قوى المعارضة والثورة السورية، والمجلس الوطني السوري، والمنبر الديمقراطي، وتيار التغيير الوطني، والجبهة الثورية لتحرير سوريا، وجماعة الإخوان المسلمين.

أما في الداخل فهناك: هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي، وتيار بناء الدولة، والهيئة العامة للثورة السورية، ولجان التنسيق، والمجلس الوطني الكردي، والكتلة الوطنية التركمانية.

ولا يجمع هذه الفصائل أي رابط تنظيمي، لا في الداخل ولا في الخارج، ولم تتفق على هيئة أو لجنة تنسق نشاطاتها وقيادة تقودها، أو على برنامج موحد يهديها للنضال، أو أهداف واضحة مفصلة، أو أنها تعمل لتغيير النظام الحالي وإقامة نظام ديمقراطي تعددي تداولي، وكأن كل فصيل من هذه الفصائل يمثل شعباً لوحده، والأنكى أن كلاً منها يعتبر نفسه هو المنقذ، وهو الذي يسير على الطريق القويم.

وانكفأ كل من هذه الفصائل على نفسه وانغلق عن الجماهير، وما زالت جميعها ـ تقريباً ـ ترفض التواصل والتنسيق مع بعضها على الأقل، مع أنها تواجه نظاماً قاسياً عنيفاً لا يرحم ولا ينفعل عندما يدمر ويقتل، ويتسلى بقصف القرى والبلدات والتجمعات المدنية، وربما يستمتع كلما زاد عدد الضحايا أو اتسع نطاق التدمير.

حيث يقدر عدد المساكن التي دمرت في سوريا حتى الآن بحوالي 800 ألف مسكن، شُرد سكانها في مختلف بقاع الأرض السورية والأجنبية، وتحتاج إعادة بنائها مع بناها التحتية، حسب تقديرات مراكز الدراسات المتخصصة، إلى ما يقارب خمسين مليار دولار، لا تملك الدولة السورية منها شروى نقير.

إضافة إلى ذلك، مارس كل فصيل ـ بلا حدود ـ نقد الفصائل الأخرى واتهامها بأبشع التهم، مثل العمالة للسلطة السورية القائمة، أو العمالة لدول عربية أو أجنبية، وشكك في قيادات هذه الفصائل، وكان همه أن يشوه سمعتها، ويمحو أهميتها من وعي الناس، ليبقى هو وحده الممثل "الشرعي" للشعب السوري.

مما أدى في النهاية إلى الإساءة لسمعة جميع الفصائل، وفقدان الثقة الشعبية بها جميعاً، خاصة وأن معظم هذه الفصائل لا جماهير لها، ولا تملك تنظيمات يحسب حسابها، وما تنظيماتها إلا تنظيمات ورقية، بعضها ورث أيديولوجيات سابقة (قومية أو دينية أو يسارية)، والبعض الآخر يتعيش على نضالات قادته السابقين والتضحيات التي قدمها هؤلاء القادة، وسنوات الاعتقال التي أمضوها في سجون الأمن السوري.

في الخلاصة، بقيت المعارضة السورية متعددة ومتشرذمة ومتناقضة، وعاجزة، ليس فقط عن الاتحاد والتنسيق بين مواقفها أو أهدافها أو برامجها، بل أيضاً ربما تكون الآن عاجزة حتى عن تشكيل وفد موحد لمفاوضة السلطة القائمة، فيما إذا بدأت مفاوضات من نوع ما.

وعليه فإنه ليس من المفاجئ التشكيك في قدرات فصائل المعارضة السورية وبإمكانياتها، كما ليس من المفاجئ تخلخل الثقة الجماهيرية بها، ودخول الشعب السوري دائرة الضياع وضبابية الرؤية.

أما فصائل المعارضة السورية المسلحة فتلك لها شأن آخر..

Email