ربما يكمن التساؤل المحوري في الإشكاليات التي تعترض التواصل بين الثقافات الدينية المتنوعة، هو ما يدور حول إمكان أو عدم إمكان- فصل البعد الإيماني في لقاءات الأديان، عن التداعيات السياسية والإيديولوجية التي تحتدم بشدة في مطلع القرن الجاري.
فالقطيعة التي تظهر في منعطفات زمنية متعاقبة بين الشرق والغرب، تعود في أساسها إلى الوصل الوطيد بين المصالح واستراتيجيات الهيمنة من جهة، وبين الاعتقاد الديني من أخرى. غير أن «منطقة الإشكال» في الاحتدام المشار إليه، هي تلك التي تتمثَّل في التأسيس الإيديولودججي والثقافي للقطيعة التاريخية بين الإسلام والمسيحية.
لقد تبيَّن من خلال تداعيات الجدل الإسلامي - المسيحي، كم هي واضحة آثار القطيعة العقائدية والإيديولوجية. وبدا واضحاً، بسبب ذلك، ضمور إمكانيات الحوار، بل واستحالته في ظل سيطرة نزعات الريبة المتبادلة، والتي غالباً ما اقتضت هجوم كل فريق على الآخر في ما يعتقده ويؤمن به. ولقد استمر هذا المسار السلبي رغم انطلاق سيرورات جديدة من التلاقي بين المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية، كان عنوانها المركزي ضرورة الانتقال في العلاقة من طور الجدل والقطيعة، إلى طور الحوار والتواصل.
وإذا كانت الهوية والدين يدخلان في نطاق ما يسميه الاستراتيجي الفرنسي جان غيتون بالميتافيزيقا السياسية، فلا مناص للمسلمين والمسيحيين من الإعراض عن توظيف الدين في حمى المصالح السياسية والاقتصادية والحروب الناتجة عنها.
ولكي لا يتأسس الكلام في هذا المنفسح على التشاؤم والعدمية، من المفيد إلقاء الضوء على بعض أبرز محطات التطور الإيجابي في تاريخ التحاور بين المسلمين والمسيحيين. ويمكن الإشارة بصفة خاصة هنا، إلى أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني المنعقد بين أوائل ومنتصف الستينات من القرن العشرين، حيث شكل نقطة تحول تاريخي في علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالمسلمين.
ومن جهة ما قدَّمه النظير المسلم، كانت ثمة رؤية موازية تتسم بتظهير فكري وعقائدي، محوره مركزية الحوار كركن جوهري في الإسلام: فعلى ما يتبيَّن من هذا التظهير، ينشأ مبدأ الحوار في الإسلام من المقاصد العليا للشريعة. وفي القرآن الكريم من الآيات ما يرسِّخ هذه الحقيقة، إضافة إلى وقائع تاريخية وجدت تأسيساتها الأولى مع السيرة النبوية في ما عرف بـ«دستور المدينة»، حيث انتظمت صلات التواصل مع اليهود والنصارى آنئذٍ، على نصاب التواد والرحمانية وإقرار الحقوق.
الحوار الذي ينبغي الشروع فيه اليوم، سواء على مستوى حوار الأديان أو الحضارات، لن يستوي إلا على التأسيس الأول، أي بما هو حوار متوازن ومتسامح، تكون بدايته تعرُّف المؤمنين على ما تنبني عليه عقائد التوحيد في المسيحية والإسلام، بهدف تعزيز قيم الإيمان والأخلاق. وأما غايته فهي إقامة جسور متوازنة ومتكافئة، بين الحضارتين المعاصرتين الإسلامية والغربية.
وأياً تكن الاجتهادات في هذا المجال، فالديانات قادرة بلا شك على توفير الأطر الضرورية لصياغة مبادئ عالمية للحوار، فضلاً عن إمكان تقديم رؤية شاملة، تؤكد الحاجة للتضامن الإنساني ومواجهة مواقف الانقسام.
وبهذا ربما يصل المسلمون والمسيحيون إلى هندسة معرفية، تفضي إلى استراتيجية عمل مؤداها احترام التغاير في التعبير عن الإيمان، وصولاً إلى بلورة منظومة قيمية إيمانية، تستطيع حل إشكالات النظام العالمي في مطالع القرن الواحد والعشرين...
ولأن إجراءات هذا العمل لم تنجز بعد، فبالإمكان وضع تصور إجمالي يستند إلى مفهومين دينيين أساسيين؛ يقوم الأول على التوحيد، والثاني على أصالة الكائن الإنساني بما هو خليفة الله في الأرض. وهذان المفهومان سوف يشكلان أساساً لرؤية تؤدي إلى استعادة التوازن لكل أبعاد الحياة الإنسانية. وفي الواقع فإن نقد الإسلام في بدايته الأولى للمجتمع المكِّي المضطرب قيمياً وأخلاقياً وإيمانياً، قابل لأن يسري اليوم على حاضر النظام العالمي الراهن.
ونعود لأصل الإشكال الذي مرَّ معنا، أي إمكان - أو ضرورة - الفصل بين الإيمان الديني كقاعدة كلية جامعة، وبين الدين بما هو انتساب قومي حضاري، لا تنفك مفاعيله عن شبكة الصراع والتدافع. فإذا كان بإمكان الأديان أن تنشئ إطاراً نظرياً للسلم العالمي بين الحضارات والثقافات، فمثل هذه الإمكانية لا تني - وستبقى لأمد غير منظور- تحت طائلة الامتناع عن التحول إلى حقيقة واقعية، لأن الأديان في تموضعها التاريخي والحضاري، لا تغادر حقول الاحتدام، وقد تبدو عاملاً مانعاً للسلام بين أهل الجغرافيا الواحدة.
ذلك كله يفترض الرجوع إلى العمل، انطلاقاً من قواعد الإيمان بالقصد الإلهي من الخلق. وهنا يطرح التساؤل مجدداً، حول المدى الذي يمكن أن يحتل فيه الإيمان المنفسح الذي تنمو فيه رحمانية اللقاء والتعرف والحوار الخلاّق؟
قد يبدو الجواب شاقاً وعسيراً، ربما لأمر متصلٍ بالسمة اللاتاريخية للإيمان، وصعوبة صيرورة الإيمان الفردي، المجرد عن المصلحة، حاكماً على تاريخية ومكانية الاجتماع البشري. ومع ذلك فإن مثل هذا التوصيف لن يؤدي بنا إلى المستحيل، فقاعدة الإيمان في المسيحية، كما في الإسلام، هي القاعدة الكلية التي تؤسس لانبثاق الروح الديني ليأخذ ظهوراته الإلهية في التاريخ.
ولأن ثمة «واحدية غير قابلة للفصل» بين الإيمان كوحي، والدين كقانون إلهي ينتظم حركة الإنسان في الزمان والمكان، فلن يستوي الحال على تناقض بين طورين لا يقوم أحدهما إلا على نفي الآخر. أما الشيء الذي ينعقد كهمٍّ أساسي اليوم بين المراكز اللاهوتية المسيحية وعلماء الدين والمفكرين المسلمين، فهو ضرورة العثور على منطقة وسطى، يتسامى فيها الإيمان الديني عن مصالح الدول وأهواء الهويات على اختلافها..