جلد سميك وأزمة فريدة في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذه أزمة غير مسبوقة في مصر أو في أي دولة على كوكب الأرض، منذ أدرك العالم نظام القضاء الحديث من محاكم ونيابات وإجراءات، وقد يصنف التاريخ انقسام المجتمع المصري وخلافه على شرعية شغل المستشار طلعت عبدالله لمنصب النائب العام، أمراً شاذاً يستحيل تكراره.

فالمنصب الرفيع ليس سياسياً ينشب حوله صراع بين التيارات السياسية وأطياف المجتمع، أو مجرد قيادة إدارية عليا تقع في دائرة اللغط بين المواطنين والإعلام والنقابات والهيئات والمؤسسات.. هو «مقعد» له بريق وتاريخ ودور، يضفي على صاحبه هيبة ورهبة وقيمة، هي بالضرورة ضمن أدواته في أداء مهامه بكفاءة وثقة، فيبدو شاغله جالساً في برج عالٍ ينير طريق العدالة للحفاظ على الحقوق: حقوق الأفراد والمؤسسات والمجتمع، لأن النائب العام هو ممثل المجتمع في مواجهة الخارجين على القانون ومغتصبي الحقوق، فكيف يقع اشتباك حاد على شرعيته؟!

ولم يتوقف الجدل واللغط عند حدود الأخذ والرد، بل صارت المحاكم طرفاً أساسياً فيه، وأصدرت محكمة استئناف القاهرة حكماً يسحب الشرعية من المستشار طلعت عبدالله، ويعيدها إلى النائب العام السابق المستشار عبدالمجيد محمود.. وهي سابقة خطيرة أيضاً، لكن الرئاسة المصرية لم تأخذ بقرار المحكمة، واعتبرته حكماً ابتدائياً قابلاً للطعن والإلغاء.. وهذا مأزق هائل، لأن عدم تنفيذ الحكم يضع كل قرارات النائب العام على محك البطلان، بتأييدها من محكمة النقض، وهو أمر وارد جداً، والأهم أن أحكام محاكم الاستئناف هي أحكام نهائية واجبة النفاذ فوراً، حتى لو جرى الطعن عليها قضائياً.

لكن طبيعة الصراع السياسي في مصر وشخصنته، حالتا دون تنفيذ حكم المحكمة، حتى لا يبدو الرئيس محمد مرسي مكسوراً ومهزوماً أمام التيارات المناوئة له، وكانت تعارضه فقط في بداية حكمه ثم اشتدت في مواقفها بالتراكم، مقابل إصرار الرئيس وعناده على المضي قدماً في إصدار قرارات تبدو بلا شرعية ولا تمت للقانون بصلة.

وتعيين النائب العام نفسه هو مثال مجسم بالصوت والصورة على نوعية هذه القرارات، فالرئيس محمد مرسي عيّنه بإعلان دستوري، حتى يتجنب مواجهة القانون، الذي يمنعه من إقالة النائب العام السابق، فالمنصب محصن ضد العزل والإقالة، حماية له من ضغوط السلطتين: التنفيذية والتشريعية، ودعماً لاستقلال القضاء.

لكن الرئيس وجماعته يريدون نائباً عاماً خاصاً، يمكن أن يلعب دوراً في حسم الصراع السياسي الدائر حالياً، سواء بمطاردة قانونية، أولاً لحركات الاحتجاج ضد نظام الحكم، وثانياً لحالة العصيان على أخونة الدولة.

وفكّر الرئيس وجماعته في حل سحري، وهو أن يصدر الرئيس إعلاناً دستورياً فوق القانون، يزيح النائب العام، مستغلاً هدير التظاهرات المطالبة بإقالة المستشار عبدالمجيد محمود، خاصة بعد أحكام البراءة في قضايا قتل المتظاهرين! ولم يتصور الرئيس أن المجتمع سيقوم ولن يقعد على قرار كان يطالب به، وأغفل الرئيس أمراً شديد الحيوية، عدّل كثيراً من أفكار المصريين، وهو شعورهم بأن دولة القانون تكاد تُفكك عمداً، فكان رد الفعل الرافض قوياً وصلباً له أصداء في الشارع من تظاهرات واعتصامات، وعلى شبكة التواصل الاجتماعي من مدونات ونكات وكتابات ساخنة ضد جماعة الإخوان.

ولم يخيب النائب العام الجديد رجاء الرئيس ولا جماعته فيه، وسار حرفياً على درب المخاوف التي حذر المعارضون منها، فانحاز إلى السلطة التنفيذية واستجاب إلى كل مطالبها، إلى الدرجة التي جعلته يأمر بضبط وإحضار أي عضو ينتمي أو يشتبه في انتمائه إلى جماعة «البلاك بلوك»، وهي مكونة من شباب يهدد بالعنف مقرات جماعة الإخوان وممتلكات تابعة لأعضائها. وقد تكون هذه أول مرة يخرج فيها قرار ضبط لمجهولين دون أسماء محددة، منذ تعيين إسماعيل يسري باشا أول نائب عام مصري في القرن التاسع عشر، وبالتحديد في التاسع والعشرين من نوفمبر سنة 1881.

تزامن مع هذا القرار سيل من البلاغات المقدمة من محامين تابعين للجماعة أو التيارات الدينية، ضد الشخصيات العامة المعارضة، مثل الدكتور محمد البرادعي، والدكتور عمرو موسي، والأستاذ حمدين صباحي المرشح السابق للرئاسة، والسيد البدوي رئيس حزب الوفد، وضد إعلاميين وصحافيين وبرامج تلفزيونية ومحطات فضائية.. ولم يتأخر النائب العام في التحقيق فيها، مع أن بعض هذه البلاغات أشبه بمكتوب ساخر في مسرحية هزلية، كاتهام قيادات جبهة الإنقاذ المعارضة بالتآمر مع جهات أجنبية لقلب نظام الحكم.. وغيرها!

المدهش أن النائب العام نفسه لم يلتفت إلى انقسام المجتمع حوله مع علمه بخطورة ذلك، وقال متحدث باسمه: إنه لا يستشعر الحرج! وكان مجلس القضاء الأعلى قد ناشده هجر منصبه والعودة إلى منصة القضاء. وقد فسر كثير من المصريين عدم استشعاره الحرج، بعبارة وردت على لسان الرئيس محمد مرسي في حوار تلفزيوني قبل شهر تقريباً، وقال فيها: جلودنا سميكة ونحن لا نتأثر بسهولة!

ويبدو أنه اعتراف فريد في لحظة صدق، لكن هذا النوع من الجلود السميكة رشق كماً من الأزمات الحادة في قلب الأمة المصرية.. وما زال.

 

Email