العقد الاجتماعي والأكثرية والأقلية

ت + ت - الحجم الطبيعي

استقرت الحضارة الإنسانية على مبادئ أساسية للدولة، هي "ميثاق المواطنة" التي تجد مرتسمها في "العقد الاجتماعي" أو "القانون الأساسي" أو الدستور. وقد احتاجت الصيغ النهائية والمستقرة لهذه الأقانيم في أوروبا، ثلاثة قرون من الصراعات والحروب الأهلية والتنافس بين الأنظمة الذي كان يصل أحياناً إلى حروب.

وتوصلت الشعوب والمجتمعات الإنسانية في النهاية إلى معايير واضحة وثابتة للدولة، من شأن تطبيقها أن يؤدي إلى الاستقرار والتنمية والازدهار. ويأتي على رأس هذه المعايير، اعتبار مرجعية المواطنة هي المرجعية الأساسية في الدولة والمجتمع، فضلاً عن الالتزام بالحرية والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص والديمقراطية وغيرها.

ولا شك أن هذه المعايير التي توصلت بلدان أوروبا إليها، من خلال تجربتها وتجارب الإنسانية جمعاء، هي الأقرب لمصالح الأفراد والمجتمعات، وقد ازدهرت الحضارة الإنسانية من خلال تطبيقها، وتطورت الدول والمجتمعات.

إن الأهم في معايير الدولة الحديثة، أمران؛ أولهما مرجعية المواطنة كمرجعية أولى ومطلقة، لأنها تعتبر المواطن الفرد الحر أساس المجتمع والدولة والنظام السياسي، وثانيهما الديمقراطية باعتبارها معياراً ووسيلة تتعايش عبرها الخصوصيات الحضارية والثقافية والإثنية والسياسية والدينية والمذهبية، وتقوُي شعور المواطنة داخل المجتمع الديمقراطي.

وعندما لا يطبق المجتمع هذه المعايير، فإنه يقيم دولة متخلفة تشبه مواصفاتها وأسسها هيكلية ومرحلة ما قبل الدولة، وتُعتمد فيها مرجعيات ثانوية تكون غالباً متناقضة وأحياناً متصارعة، مما يؤدي إلى ضعف الدولة، وأحياناً إلى قيام حروب تدمرها.

وعلى ذلك فحيثما يضعف تطبيق هذه المعايير، تنفجر الصراعات الطائفية أو المذهبية أو الإثنية أو الإقليمية، ليس لأن أتباع كل فئة يؤمنون بفلسفة هذه المرجعيات المتخلفة أو بمطالبها، بل لأن كل مواطن يحتاج من يحميه ويؤمن حقوقه، وليس له في هذه الحالة سوى المرجعية الثانوية الضيقة.

يقتضي العقد الاجتماعي (أو القانون الأساسي) عادة، قبول تداول السلطة والالتزام بحماية كرامة المواطن وحقوقه، وقيم الحرية والعدل والمساواة والثقافة والدين والمذهب والتعددية، في إطار نظام ديمقراطي يحترم رأي أبناء المجتمع، ويعطي للأكثرية السياسية حق تطبيق هذه المعايير أو الإشراف على تطبيقها، وذلك بمساعدة مؤسسات المجتمع المدني وتنظيماته وإدارة الدولة، وأحياناً بمساعدة المعارضة.

وفي هذا الإطار يكون واجب الأكثرية تجسيد الدستور أو القانون الأساسي أو العقد الاجتماعي، في قوانين وقرارات شاملة، ولكن هذا لا يعطيها الحق في مخالفة أسس العقد الاجتماعي أو القانون الأساسي، وتبقى حقوق الأكثرية في تنفيذ برامجها تقع تحت سقف هذه الأقانيم، فليس للأكثرية أي حق مثلاً في عدم تطبيق الحرية أو العدالة أو المساواة أو تكافؤ الفرص أو غيرها.

وتبقى حقوقها مرهونة في أشكال تطبيقها والاجتهاد في تفسيرها. وإذا أرادت الأكثرية أن تعدل أو تغيّر أياً منها، فينبغي الحصول على توافق وطني من قبل جميع شرائح المجتمع بما فيها المعارضة. وهذا يشير بوضوح إلى الرفض المطلق لديكتاتورية الأكثرية، أو لتطبيق سياسة الإقصاء أو ما يشبه ذلك، لأن المعايير الأساسية والنواميس الأساسية للعقد الاجتماعي والدستور، ينبغي أن تبقى خارج إطار رغبات الأقلية والأكثرية.

وفي ضوء هذا نلاحظ أن الأكثرية الحاكمة في الدول الديمقراطية، تستشير المعارضة ومنظمات المجتمع المدني عندما تريد اتخاذ قرار له طابع وطني وليس تفسيراً اجتهادياً، كما لا يحق للأكثرية بالمطلق أن تلغي أو تعدل المعايير الأساسية إلا بوفاق وطني.

وهذا يضمن في النهاية رفض ديكتاتورية الأكثرية وتسلطها على الدولة والمجتمع، وهكذا تضمن المعارضة ومنظمات المجتمع المدني تحقيق التوازن في السلطة وفي المجتمع، المتعلقة بالعقد الاجتماعي. وبالمناسبة فإن هذه المهمة التي تقوم بها المعارضة، كما أعتقد، هي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي جاء بها الإسلام، لأنها تحفظ التوازن وترفض سياسة الإقصاء والطرد والحرمان من المشاركة في بناء المجتمع وتطويره وتحقيق الرفاه لأبنائه.

إن هذا يلقي الضوء على المفاهيم الخاطئة المتعلقة بحقوق الأكثرية وحقوق الأقلية، وخاصة في البلدان العربية، سواءً كانت أكثرية اجتماعية أم دينية أم سياسية، إذ يعتقد معظم الأكثريات العربية أن لها الحق المطلق في عمل أي شيء، وخاصة إذا كانت منتخبة، ولطالما ردد معظم الأكثريات العربية أنها أكثرية ولها الحق في عمل ما تشاء.

وتطبيقاً لذلك تقصي الأكثرية السياسية العربية الأقليات المعارضة عن الدولة وشؤونها ورسم قوانينها ومعاييرها ونظمها وسياساتها، كما تحوّل الأكثرية الدينية أو المذهبية أو الإثنية، الأقليات إلى أفراد من الدرجة الثانية، ولا تعطيهم حقوقهم كاملة بحجة أنها أكثرية وأن الديمقراطية تعطيها الحق في ذلك، وتتناسى أن حقوقها كأكثرية تقع تحت مظلة العقد الاجتماعي أو الدستور، وأنها دائماً تقع في حدود الاجتهاد ووجهات النظر والبرامج التنفيذية فقط.

ومن المؤسف أن عديداً من النخب العربية ومن الأكثريات السياسية والاجتماعية والدينية، تتبنى حق الأكثرية المطلق في الحكم واتخاذ القرار، بينما تضع جميع القيم السياسية في العالم المتقدم الديمقراطي حدوداً لسلطة الأكثرية، وترفض بتاتاً إقصاء الأقلية أو الجور على حقوقها، أو تحميلها واجبات ومسؤوليات دون غيرها.

لا يحق للأكثرية إذاً أن تدعي لنفسها الوصاية الفكرية أو السياسية أو السلطة على الأقلية، كما لا يحق لها أن تلغي أي حق من حقوق الأقليات أو معياراً من معايير الدولة الحديثة، لأن هذه جميعها غير قابلة للتصويت، بل تحتاج لتوافق وطني، وإلا سيتحول النظام السياسي والاجتماعي إلى ديكتاتورية الأكثرية، وتصبح الديمقراطية عرجاء.. وربما سيقع المجتمع عندها تحت سطوة سلطة ديكتاتورية.

 

Email