سيأتي يوم قد لا يجد الغرب فيه ذريعة لمعاركه الثقافية مع العرب والمسلمين، سوى شعاره المستحدث «الحرب على الإرهاب». ذلك يشير إلى حقيقة ستظهر في القريب المنظور، وهي أن الفكر السلطوي في الغرب استنفد أكثر مخزونه المعرفي، في سياق إجراءات الهيمنة التي شغلته على امتداد الأحقاب الكولونيالية المنصرمة.
صورة الشرق كما يراها الغرب ويشتغل عليها، هي صورة تكتظ بمفردات العنف، بينما يعكف جهازه الإيديولوجي على قلب هذه الصورة، ليجعل من الجغرافيا العربية والإسلامية حقلاً خصيباً لاستنبات ألوان جديدة من المباغتات الفكرية..
لا شيء أكثر مدعاة لغواية التدخل، من ذريعة الحملة على الإرهاب والقضاء عليه. ولقد أفلحت الصناعة الإيديولوجية الغربية، في إنجاز مساحة وازنة من عمليات توظيف ثقافة العنف على مدى عقدين متصلين.
المفارقة التي تظهر عندنا بجلاء، هي أن الإرهاب لم يعد مجرد مفردة وافدة من خارج، بل هي ستغدو مقولة تُسوِّق ويعاد إنتاجها بشغف نادر من جانب النخب الوطنية. ولو كان لنا أن نمضي في استبيان القضية المطروحة، لقلنا إن المشكلة لا تمكث في الأصل الأخلاقي للموقف الذي يدين العنف الأعمى، فهذا من بديهيات الفطرة الإنسانية أنَّى كانت انتماءاتها وهوياتها القومية والدينية والحضارية.
المشكلة التي نحن بصددها، تكمن في السياق الذي تندرج فيه مقولة الإرهاب، بوصفها مقولة صنعها العقل الغربي ومهَّد لها أرض المشرق العربي، لتأخذ حيويتها الدامية في ميدان النظر والتطبيق. ثم مضى بها لتجد من يحملها عن ظهر قلب، من مثقفي وأكاديميي وخطباء هذي البلاد وسياسييها.
فلو نستعيد قليلاً "شريط الاخبار" من أوله، لَحَقَّ القولُ إن الحرب المفتوحة على الإرهاب، هي حرب الغرب على منتج صنعه الغرب نفسه بإتقان، ليجد به سبيلاً لاستباحة مجتمعات المنطقة، وتحويلها إلى ما هو أدنى من مستوطنات تنوء بالحذر والقلق والكراهية.
منذ أيام قرأنا مقالاً للصحافي البريطاني روبرت فيسك في صحيفة «الانديبندنت»، يتحدث فيه عن الحرب على الإرهاب بوصفها "دين الغرب الجديد"، ويتساءل: لماذا لا يتوقف الغرب عن نشر القنابل وقذائف اليورانيوم المخصب على شعوب الشرق الأوسط؟ ولماذا لا يتوقف عن إرسال جيوشه لاحتلال أراضي المسلمين، وعن رشوة القادة العرب لسحق شعوبهم؟
ثم يضيف: إن العدالة لا تُصنع من المياه المالحة، حيث لا يزال قادة الغرب يرغبون في أن يحكموا العالم، وهم يخاطرون بأوضاعهم وسمعتهم ومستقبلهم السياسي وحياتهم. وكل ذلك بذريعة تسييل هذا المفهوم الغريب الذي يسمونه الحرب على الإرهاب، وهو في الحقيقة دينهم الجديد...
لسنا نريد من اقتباس هذه الخلاصة من مقالة روبرت فيسك، إلا لنتبين ما بلغه نقد الغرب لنفسه في شأن مقولة احتلت البيئات السياسية العربية وراحت تترسخ في أعماقها.
أما دلالة الأمر، فهي تتعدى البيان الإخباري، ذلك أن دين الغرب الجديد المثقل بذرائعيته، هو دينٌ آخذ في التحول إلى نظرية معرفة لدى نخب واسعة جداً في عالمنا العربي والإسلامي، مثلما يتحول في الواقع إلى فِتَنٍ شاردة في طول الأرض العربية وعرضها.
من مفارقات هذا الفاصل الرمادي الذي تعبره المنطقة، أن «الانتلجنسيا العربية - الاسلامية» لم تستيقظ من غفلتها، حتى وهي ترى وتقرأ ظاهرة النقد الذاتي التي يمارسها العقل الغربي لسلوك حكامه. وهذا لو دلَّ على أمر، فعلى مدى الاستباحة التي تضرب أعماق الثقافة السياسية في مجتمعاتنا.
لو قيل - وإن من باب التوصيف - إن ما يجري هو احتلال معرفي وغزو ثقافي، بلغ مراتبه القصوى مع ربيع العرب المدوي، لقيل للقائلين: ما جئتمونا بجديد. والكلام على الغزو الثقافي ما هو إلا توصيف رتيب، لا يقبله عقل ولا يسِّوغُه منطق. ثم إنك لو جاريت هذا القول وسلَّمت جدلاً بما فيه، وسألت القائل عما لديه من تقدير للأحوال، لأعرض عن كل جواب مقنع أو أنه، في أحسن الأحوال، أتاك بجرعة زائدة من الغموض.
تلك على أي حال «مزية تفكيرية» أَلِفَتْها البيئات العربية على امتداد العهود الكولونيالية المتعاقبة، وهي غالباً ما تطفو على بساط الأحداث، خصوصاً في المراحل التي تشهد الانتقال بين زمنين. وذاك هو حالنا اليوم، حيث زمن المنطقة اليوم، بتحولاتها، وثوراتها وحروبها الأهلية، هو زمن الاحتمالات والظنون وانعدام اليقين.
وهو بعبارات مقتضبة، ذلك الزمن المفتوح على الانفعال والتلقي، والتنازع الأهلي. ولهذا فإن أكثر ما في المشهد الرمادي، يحملنا على الملاحظة بأننا نقيم الآن في عصر المجتمعات المفتوحة على ضروب لا حصر لها من الاستباحة. بل لنقل إننا في طور متجدد من الغزو المركب، طور تتضافر فيه إرادة الخارج بقابليات الداخل، ليعود الغرب ويستأنف فوضاه العمياء، في بلاد لم تعد بالنسبة إليه سوى حقول اختبار لأفكار وحروب من كل صنف ولون.
مثل هذا التضافر الذي ألمحنا إليه، هو عين ما يرمي إليه «دين الغرب الجديد».. إلى حيث ينصرف الوعي السياسي عما هو حقيقي وواقعي، إلى ما هو متخيِّل وموهوم. بمعنى محدد وبيَّن؛ ألاّ تغيب عن إدراك «النخب العربية والإسلامية»، حقيقة أن الغرب لن يفلح في ممارسة ثقافة التفكيك، ما لم يكن من أهل البلاد ومقرِّري ثقافاتها واستراتيجياتها، من يشاطره الوظيفة والدور.
مثل هذا التوصيف ليس رأياً ينتظر الوقت ليحكم عليه بالخطأ والصواب، ذلك أن ما جرى ويجري في ساحات العرب وميادينهم سحابة العامين المنقضيين، يجعل من صُوَر التشظي والانتحار الذاتي، أمراً مرئياً رأي العين وواقعاً لا تشوب كارثيتَه شائبة.
لكن العجيب الغريب في الصورة، أن المعادلة باتت مقلوبة ومضطربة وقلقة، إلى درجة أن الشارع بغرائزه ولا عقلانيته، هو الذي يقود النخب ويوجهها.. حتى أننا لو عاينَّا حاصل الصورة، لوجدنا كيف تنبري النخب لتعقلن الجنون الفالت من كل عقال.