المستقبل الصعب في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يمر يوم في مصر الآن دون عنف، عنف ينتقل بسرعة هائلة من مكان لآخر، حرب شوارع أمام أقسام الشرطة، وفي ميادين بورسعيد وطنطا والمحلة والمنصورة وشبين الكوم، وأمام فنادق شهيرة، وفي محيط قصر الرئاسة، ومقر جماعة الإخوان فوق جبل المقطم.. ويبدو الإمساك بالاستقرار المنشود مثل قبض الريح، أو حلم ليلة صيف على قمة جبل جليد، غابت عنه الشمس تماماً. عنف يحدد مستقبل مصر التي تقف في مفترق طرق حضاري، تخوض فيه صراعاً شرساً مخيفاً، بين العودة للماضي في ثياب جديدة، وكسر شرنقة التخلف والانطلاق إلى العصر الحديث.

ويصبح السؤال الدائر حالياً في كل بيت في مصر: متى ينتهى العنف؟ هو نوع من السذاجة، فالإجابات المنتظرة لن تأتي قبل أن يحسم هذا الصراع لمصلحة طرف على حساب طرف آخر، إذ تبدو فكرة التعايش بين الفكرتين المتصارعتين صعبة إن لم تكن مستحيلة.

 ويتصور بعض المفكرين أن الوقت قد حان ليدفع المصريون الثمن الباهظ، المطلوب لإحداث تغيير جوهري في مجتمعهم، متعللين بتاريخ البشر الذي لا يعرف تغييراً هائلاً دون صراع ودم، خاصة في المجمعات التي تعاني انقساماً واستقطاباً حاداً بين أفكار متعارضة إلى حد التناقض! والتاريخ فعلاً متخم بمثل هذه الحكايات الملتهبة منذ بدء الخليقة، وإذا عدنا إلى قصة أول دماء مسفوكة على الأرض، وهي دماء هابيل على يد أخيه قابيل، فماذا حدث؟!

ببساطة - دون الخوض في تفاصيل القصة المذكورة في الكتب السماوية - كانت محاولة لإحداث تغيير جوهري في "نظام الزواج"، إذ طمع قابيل في الزواج من أخته التوأم، على عكس القاعدة المعمول بها، وسنها أبونا آدم بتعاليم من السماء، وكانت درساً بليغاً له جوانب متعددة، منها أن التغييرات الكبرى لها تكاليف وضحايا!

ولم تسلم منها الأديان السماوية نفسها، وهي ثورات في الفكر والقيم والتوجهات، أحدثت تغييرات عظمى في مسار الإنسانية، عبرت بها إلى عوالم جديدة مختلفة، تأسست على تضحيات هائلة من المؤمنين بها ضد الرافضين لها، مع أنها كانت مدعومة من السماء ومنزلة على أنبياء ورسل انتقاهم الله لإبلاغ رسالته إلى الناس.

هذا هو القانون.. فأي شيء يدفع الإنسان ثمنه، يحافظ عليه ويسكن في عقله ويستقر في وجدانه ويعض عليه بالنواجذ.

وإذا رجعنا إلى مصر، نجد أن المصريين في العصر الحديث لم يصنعوا تغييراً جوهرياً في نظم حكمهم، منذ صعود محمد علي باشا إلى سدة السلطة، لأنهم لم يدفعوا ثمن هذا التغيير إلى نهايته. فمحمد علي بنى دولته على هواه وليس على هوى المصريين، فكان طبيعياً ألا تؤسس على القواعد التي عرفها العالم بعد الثورة الفرنسية. والثورة الفرنسية ذاتها كانت على درجة غير مسبوقة من العنف، فلم يستقر المجتمع الفرنسي وجمهوريته إلا بعد عشرات السنين من القلاقل والاضطرابات القاسية.

وكان يفترض أن يتعظ المصريون من التاريخ وحكمته، ويسهلوا على أنفسهم ويختصروا طريق العنف إلى أقل قدر ممكن، لكن جماعة الإخوان لم تترك لهم الفرصة، فقد كانت مشغولة بالتمكن من مفاصل الدولة المصرية، واستبعاد التيارات الأخرى إلى هامش المشهد السياسي. وحين وصل الرئيس محمد مرسي إلى منصب رئيس الجمهورية عبر صناديق الانتخابات، لم يكن المناخ العام معادياً له، وكانت الأوضاع تتجه إلى نوع من الاستقرار.

صحيح أنه لم ينجح في الانتخابات إلا بنسبة ضئيلة تقل عن ثلاثة في المائة من عدد أصوات الناخبين، لكن المصريين قبلوا بالنتيجة وتصوروا أنها فرصة أمام الجماعة لتعيد دمج نفسها في المجتمع بطريقة صحيحة، ولم تكن هناك مظاهرات ولا اشتباكات ولا قطع طرق ولا حرق ممتلكات في بدء عمل الرئيس رسمياً في أول يوليو الماضي، بل كانت الأيام الستة التالية هادئة نسبياً، إلا من حالات إغماء أصابت طالبات الثانوية العامة بسبب صعوبة امتحان مادة الكيمياء.

لكن الجماعة كان لها مخطط آخر، استهله الرئيس بقرار في اليوم السابع له، كان بمثابة دعوة للعنف، وهو إعادة مجلس الشعب الباطل بحكم المحكمة الدستورية، وخرجت مليونيات معارضة تواجهها مليونيات مؤيدة، وراح الانقسام يضرب بقوة في جسد الأمة المصرية ويعمق فيها جراحاً جديدة، فالرفض والتأييد اتخذا شكل الخصومة، وركبهما العناد والكراهية وتبادل الألفاظ الجارحة التي تحفر خنادق يحصن فيها كل تيار نفسه ويقصف منها الطرف الآخر، ولم تفلح شخصيات عامة كبيرة في إقناع الرئيس بأن دهس أي حكم قضائي يهدد دولة القانون، ويفسح مرتعاً للعنف.

ثم أكمل الرئيس دائرة الكراهية والرفض بإعلان دستوري يحصن قراراته ضد القضاء، وهو القرار الزلزال الذي ما زالت توابعه تضرب الوطن بقوة.

وهذا الانقسام والاضطرابات قادت بالضرورة إلى فوضى ضربت في كل جنبات المجتمع، وأسالت صلابته، وفي حالة السيولة تتكاثر الفيروسات والجراثيم والطفيليات؛ من بلطجية وانتهازيين ومجرمين وأصحاب سوابق وأصحاب مصلحة ومتآمرين، فاختلط الحابل بالنابل، حتى صار العنف، لا الحوار، هو السبيل لحسم الصراع بين فكرة الدولة الحديثة، والدولة التي يسعى إليها الإخوان.. ولن يتوقف قبل حسم الصراع!

 

Email