مرَّ زمن بدا فيه النموذج السياسي اللبناني عنواناً لتساكن الكثرة وتعايشها الخلاّق، في فضاء الدولة الواحدة، حتى لقد اتفق للمؤرخ الراحل كمال الصليبي، أن يؤلف كتاباً رؤيوياً عن ماهية لبنان، وضعه تحت عنوان "بيت بمنازل كثيرة". كما لو أنه أراد أن ينبَّه من أشكلت عليه الطبيعة السياسية والمجتمعية للبنان، إلى أن المنازل الطائفية فيه، ليست سوى مرايا متعددة تعكس صورة البيت الوطني الواحد.

ما كان الصليبي يستلهم من إنجيل يوحنا الآية المأثورة "في بيت أبي منازل كثيرة"، إلاّ لكي يقول إن بإمكان اللبنانيين لو أصلحوا ذات بينهم وتخلَّقوا بالتراحم، أن يرتضوا العيش، على كثرة طوائفهم وتعددها، داخل كيان جامع.

في الستينيات من القرن العشرين، اختُبرت هذه الإمكانية مع المحاولة الشهابية الإصلاحية. ولاح يومها في الآفاق اللبنانية، ما يومئ بتقدم فكرة الدولة ورحابتها، على ذهنية الطائفة وضيقها. لكن عقداً من السنوات لم يمر، لينقلب المشهد، وينكسر الحلم، وتعود الطوائف إلى عروشها، لتستأنف العصبيات المغلقة سيرتها الأولى.

كانت سبعينيات القرن المنصرم مبتدأ الرحلة الدامية. ففي ربيع العام 1975 اشتعلت نار الحرب الأهلية، بشغف طوائفي قلّ نظيره، وما كان لها أن تهدأ وتسوّى بعد خمسة عشر عاماً، إلاّ بالشغف الطوائفي نفسه.

حتى الإرادات الإقليمية والدولية الداخلة أصلاً على خطوط النار والتسويات، حطّت رحالها وصنعت سياساتها في ساحات الطوائف. وأكثر من هذا، فقد تمثّلت لغة هذه الطوائف ومفرداتها وشرائطها، لتصوغ لها اتفاقاً على قياس الموازين الداخلية والخارجية.

فلقد جرت القوى الإقليمية - العربية أساساً - مجرى الطائفية وهي تعلن على الملأ تسويتها، في ما عُرِف باتفاق الطائف 1989 1990، بل إن هذه القوى ربما كانت مأخوذة بسحر زعماء الطوائف وميليشياتها المدنية والعسكرية، أكثر من اللبنانيين أنفسهم.

 ولم يتوقف الحال عند هذا الحد من الاستغراق الخارجي، في ثقافة الطوائف العائدة بجذورها وتداعياتها إلى جاهلية القرون الوسطى. فلقد فعل الغرب فعلة العرب إيّـاها، وهو الممتلئ بعلمانيته الحادة، ومجتمعاته المدنية ودولته الما بعد حداثية.

هكذا جرت أحوال لبنان في ماضيه القريب والبعيد، وعلى هذا النحو - كما يُرِّجحُ الظن - ستجري في الراهن والمستقبل. وهذه هي الصورة: الداخل والخارج يتواطآن معاً، لاسترجاع "المقدس الطائفي"، الذي لا قيامة للبنان إثر كل خراب وطني إلاّ به. لو عاينّا الصورة اللبنانية بعد انصرام ثلاثة وعشرين عاماً على "تسوية الطائف"، وقيام "جمهورية ما بعد الحرب"..

فلن نلاحظ أن تبدلاً جوهرياً قد حصل في منطق اللعبة. كل ما في الوضعية اللبنانية الناشئة منذ العام 1990 وإلى الآن، هو أدنى إلى مسار قلقٍ تتخلله حروب باردة حيناً، ودموية حيناً آخر، أو أنه في أكثر أحواله حسناً - أشبه بوضعية وطنية تمكث على حافة بركان يوشك على الانفجار.

الحقبة اللبنانية الراهنة، تترجم تلك الوضعية على نحو بيّن. والخُطَب السياسية التي يزدحم بها الأثير المسموع والمرئي، تلقي بأثقالها على المزاج العام، لتجعله أسير الخوف وعدم اليقين.

ولو اختبرنا حاصل القول السياسي الذي يستغرق لغة الجميع (طوائف ومذاهب وأحزاباً وسياسيين)، لبدا بوضوح كيف أن قولاً كهذا لا يستقيم إلاّ على نصاب الاستكراه والتشظي والقسمة. ولو قيل إن حالة مضطربة كهذه ليست جديدة على ما تعوّده اللبنانيون سحابة عقود مضت، لصدق مثل هذا القول للوهلة الأولى.

غير أن الحاصل في الوضعية اللبنانية الراهنة هو الأشد مدعاة للهلع، ذلك أن تشظيات الاجتماع اللبناني في طورها "المستحدث"، تجاوزت ثنائيات الانقسام الطائفي التقليدي، الذي عرفه لبنان في السبعينيات والثمانينيات الماضية، لتضرب أعماق المذاهب الإسلامية والمسيحية معاً، وتضعها على خط التناحر والفوضى العمياء.

مع ذلك يجري الكلام على مشروع الدولة، وعلى شريعة المجتمع المدني، وكذلك على منطق الفصل الديمقراطي بين السلطات. وما ذاك إلا لأن الكلام الصادر أساساً عن ثقافات الطوائف والمذاهب، إنما يعكس قدرة المتكلمين الطوائفيين والمذهبيين على الإحاطة بطبيعة الدولة اللبنانية وشروط التعامل معها.

ذلك يعني أن الثقافة السياسية الطائفية في لبنان، هي من التجذر و"الأصالة" بحيث لا تستطيع "العلمانيات" العابرة لطوائفها ومذاهبها، إحداث أي تغيير ذي قيمة تاريخية يعيد الاعتبار للحلم الإيديولوجي، الذي اختصره كمال الصليبي في كتابه المذكور...

حين تتحدث الطوائف عن الدولة، فلا تقصد سوى الإشارة إلى الموئل السياسي الدستوري الذي يحميها، ويعيد إنتاجها، ويؤمِّن لها نفوذاً لا ينضب سلطانه. والمفارقة التي تحكم صيغة العلاقة بين الدولة والطائفة في لبنان، هي أن الطوائف المجتمعة في موئل الشرعية الدستورية، تحتدم حتى درجة التناحر، لكنها لا تفتأ حتى تتوحد غريزياً في وجه فكرة الدولة، وخصوصاً عند اللحظة التي توجبُ تنازل الطوائف عن قسط من منازلها المتعددة، لصالح البيت الوطني.

في كتاب صدر لنا قبل خمسة عشر عاماً تحت عنوان «اللاّيقين السلمي.. أحوال لبنان بعد الحرب»، أخذ علينا كثيرون ما ذهبنا إليه آنذاك، حين قلنا بـ«أصالة الطائفية» اللبنانية، وبأن الدولة في لبنان لا تعدو كونها منتجعاً تستريح فيه الطوائف من حروبها المستأنفة.

بعض هؤلاء اليوم بات في السلطة، بعدما آل آمناً مطمئناً إلى حضنه الطائفي. هذا البعض يقول اليوم ما سبق وقلناه على نحو التوصيف الواقعي. أما هو فقد آنس بطائفيته وجاهر بـ«تمذهبه»، ثم انصرف إلى التنظير والتبرير وإضفاء المشروعية على جاهلية لبنانية، تجدد نفسها كل ساعة.