نحن وكينيا في سباق تعزيز العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كلما سمعت المثل العربي الشهير "شر البلية ما يُضحِك"، تساءلت عن التفسير العلمي أو المنطقي للعلاقة بين الضحك والبلاء، وتقافزت أمامي عبارات كثيرة يزخر بها تراثنا العربي تربط بينهما، أو بين مظاهر الضحك والبكاء، مثل قولنا "وضحك حتى اغرورقت عيناه بالدموع"، حيث من المعروف أن الدموع مرتبطة بالبكاء وليس الضحك، وبرز لي البيت الشهير الذي يحفظه أغلبنا لشاعر العربية الكبير أبي الطيب المتنبي: "وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكاء".

فكيف يمكن أن نجد تفسيرا لهذه العلاقة بين الضحك والبلاء، أو بين المأساة والملهاة، حسب تعبير النقاد الفنيين؟

ربما يكون الاستشهاد بالأمثلة أفضل بكثير من الاستغراق في الشرح الذي قد يتحول إلى سفسطة طاردة للقارئ أو المستمع، كما يحدث في المدارس والجامعات، فيؤدي إلى شرود الطلبة وعدم استيعابهم لما يلقى عليهم من دروس، لذلك سأحاول أن أسوق بعض الأمثلة للاقتراب من هذا المثل الذي نستخدمه، ويظهر كثيرا في أدبياتنا، علها تكسر حاجز الملل الذي يمكن أن يتكون بيننا، فيُفقِد الحديث المتعة التي نسعى إليها.

قبل أسبوعين تقريباً، وصلتني رسالة بالبريد الإلكتروني، من صديق منافح عن اللغة العربية، سبق أن كتبت عن موقف له في هذا المكان، هو الأستاذ أبو صالح أنيس لقمان، قائد فريق المناهج العربية في "أكاديميات الدار" في أبوظبي، يحيل فيه إليّ رابطاً يتضمن حديثاً تلفزيونياً بثته إحدى القنوات الفضائية العربية، بعنوان "هل اللغة العربية في خطر؟" بمناسبة الاحتفاء بـ"اليوم العالمي للغة الأم"، الذي تحتفي به الأمم المتحدة يوم الحادي والعشرين من شهر فبراير كل عام.

وعلق الأستاذ أبو صالح قائلا: "لست أدري ما إذا كان الاطلاع على هذا الحديث، إذا اتسع لديك الوقت، ينكأ جرحاً قديماً في كبدك المقروحة، أو يلهمك فكرة طريفة، أو خاطرة جديدة، فتنسكب من خلال قلمك السيال، مقالا يُضحِك قليلًا ويُبكي كثيراً عن الضاد كالمعتاد...".

شاهدت التقرير، وقد كان فعلاً من ذلك النوع المُضحِك المُبكي، ابتداءً من لغة المذيعة التي قدمت التقرير وأجرت الحوار مع الأستاذ أبو صالح، وانتهاءً بالجمهور الذين تم استطلاع آرائهم فيما إذا كانت اللغة العربية في خطر، فأجمعوا على أنها في خطر حقيقي، وكانت اللغة التي عبروا بها خير شاهد على ذلك.

 وحده الأستاذ أبو صالح كان نشازاً في تلك الجوقة، إذا اعتبرنا الأداء المختلف نشازاً، إذ أدى بلغة عربية فصيحة بعيدة عن التقعر، وكانت المفارقة الكبرى أنه الوحيد الذي ليس من الجنسية العربية، لكنه عربي اللسان والهوى، بينما كان الجمهور المستفتى والمذيعة المحاورة عربا!

وتزامناً مع رسالة الأستاذ أبو صالح أنيس لقمان الإلكترونية، قرأت خبرا منشوراً على أحد المواقع الإلكترونية، يقول إنه تُبذَل في كينيا جهود كبيرة لتعزيز مكانة اللغة العربية والثقافة الإسلامية، رغم التحديات التي يواجهها العاملون في هذا الحقل، بسبب قلة الإمكانات المالية، مقارنة بغيرها من اللغات الحية في العالم.

ويذكر الخبر أن تاريخ اللغة العربية في كينيا يعود إلى العصور الأولى للإسلام، حيث عرف شرق إفريقيا عدداً من الإمارات الإسلامية التي اندثرت لاحقاً، لكن آثارها الثقافية والحضارية ما زالت ماثلة في العديد من المناطق، حيث تحتوي اللغة السواحلية على مفردات عربية تتراوح بين 25% و40% من معجمها، وكانت تُكتَب بالحروف العربية، قبل أن يتم استبدال الحروف اللاتينية بها أواسط القرن الماضي، لكن دراسة اللغة العربية، والتدريس بها في كثير من المدارس والجامعات الإسلامية، بالإضافة إلى معاهد اللغة العربية، أصبحت ظاهرة لافتة للنظر في كينيا، مع عودة آلاف الطلاب الذين درسوا في الدول العربية، حاملين لغة وثقافة البلاد التي تلقوا التعليم فيها، حسبما يقول العديد من القائمين على المؤسسات التعليمية الإسلامية، رغم أن المسلمين لا يشكلون أكثر من 35% من سكان كينيا البالغ عددهم 41 مليون نسمة.

وفي الإمارات، أكد المشاركون في الحلقة النقاشية التي نظمتها لجنة شؤون التربية والتعليم والشباب والإعلام والثقافة، في المجلس الوطني الاتحادي الأسبوع الماضي، تحت عنوان "اللغة العربية عماد الهوية.. الحاضر والمستقبل"، أكدوا على ضرورة إصدار قرار من الجهات العليا، يلزم الجامعات الوطنية التدريس باللغة العربية، معتبرين أن تجربة التعليم باللغة الإنجليزية في الفترة الماضية، مشروع قاصر ومجهض، لم تزود الطلبة بلغة قوية، وكانت فاشلة، حيث تاه الطلبة بين لغتين، فكانت النتيجة الضعف في كلتا اللغتين.

وطالب المشاركون في الحلقة النقاشية، بأن لا تكون اللغة الإنجليزية مقياسا لدخول الطالب الجامعة، أو حصول الموظف على الوظيفة، وأن يصبح امتحان الكفاءة باللغة العربية، تمهيدا لدخول الطلبة المؤسسات الأكاديمية.

"لجنة شؤون التربية والتعليم والشباب والإعلام والثقافة" في المجلس الوطني الاتحادي، التي ناقشت موضوع اللغة العربية عبر اجتماعات عدة عقدتها وسوف تستكملها حتى يتم إعداد التقرير النهائي حول هذا الموضوع، تمهيدا لرفعه إلى المجلس، ثم إلى الحكومة لمناقشته في جلسة عامة، ستوصي في تقريرها، وفقاً لتصريح أحد أعضائها، بإلزام الجامعات الوطنية التدريس باللغة العربية، وأن لا يكون معيار الدخول إلى الجامعة أو الحصول على الوظيفة، هو إتقان اللغة الإنجليزية.

سعي مشكور وجهود مقدرة، لكن أخشى ما نخشاه هو أن تسبقنا كينيا إلى إدراك ما تسعى إليه، دون أن ندرك نحن شيئاً مما نسعى إليه، فنعود نردد من جديد ما قالت العرب قديماً، ونستذكر المثل العربي الشهير "شر البلية ما يُضحِك".

 

Email