البحث عن ثورة ضائعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يلتقي مصريان عاديان إلا وكان شيطان السؤال الصعب ثالثهما: لماذا لم تنجح الثورة المصرية؟! سؤال أشبه بضربة على الدماغ فتهرسه، أو طلقات سريعة من رشاش كلاشينكوف على حلم لاح في أفق المصريين فأسقطه قبل أن يهبط إلى أرض الواقع!

لكن هذا السؤال يستنكره بالطبع أعضاء التيارات الدينية، من أول السلفيين إلى الجهاديين، وبالأخص الإخوان المسلمين، فالثورة بالنسبة لهم قد نجحت نجاحا باهرا، ولم يبق سوى الحفاظ على مكتسباتها، وهي الوصول إلى السلطة والتحكم في الفترة الانتقالية للدولة المصرية، وإعادة تشكيلها بالطريقة التي يرونها تناسب رؤيتهم للدين والحياة والوطن!

أما أغلب المصريين فما زال السؤال يوجعهم ويشد على أعصابهم.. فأحوالهم المعيشية ضاقت، وأوضاعهم الأمنية ساءت، وأحلامهم في التغيير تبخرت، وأصبح المستقبل أمامهم أكثر غموضا عن ذي قبل.

وبالفعل أهدر المصريون فرصة عمرهم في التحليق بالثورة إلى آفاق مستقبل دولة عصرية حديثة، حسب تجارب ما بعد الثورة الفرنسية، أو تجارب الشرق الآسيوي بعد الحرب العالمية الثانية.. وهذا الفشل يتحمله عنصران..

الأول: المصريون أنفسهم، وخاصة نخبهم السياسية والثقافية والاقتصادية.

الثاني: عيوب تاريخية في بنية المجتمع المصري نفسه، عيوب تعيق فرصته دوما في التقدم إلى الأمام، وهي العيوب التي أفشلت تجربة "محمد علي باشا" في الخروج النهائي بمصر من مستنقع القرون الوسطي وتخلفه، رغم النجاحات والغزوات التي صنعها، ثم كل التجارب التي تلاحقت بعدها، سواء مع ثورة 1919 أو مع ثورة جمال عبد الناصر.

وإذا عدنا إلى النخبة المصرية، نجدها مصابة بكثير من التناقض والصراع والشرذمة، وقليل من الائتلاف والتنافس والتجمع، لأسباب تاريخية ممتدة لأكثر من مئة وخمسين سنة، ويمكن رصد ملامحها القوية منذ ثورة أحمد عرابي ضد الخديوي توفيق، وإلى الآن..

فالمصالح الآنية المباشرة تختلط دومًا بالمصالح العامة البعيدة، وهذا الاختلاط وسع من دائرة الانتهازية السياسية، وهي الانتهازية التي استغلتها السلطة من حكم محمد علي إلى حكم حسني مبارك، وأخضعت هذه النخبة في مجملها لسلطانها.

وجاءت الفرصة الآن على طبق من ذهب، فمصر في حالة سيولة، ويمكن أن تتأسس فيها أوضاع وامتيازات جديدة، تحت قناع ثوري أشبه بالقناع الذي تخفّت وراءه في ثورة 1952 وقادت البلاد عكس طريق الديمقراطية.

وهنا يأخذ الصراع بين التيارات السياسية شكل خناقة أو اشتباك محتدم، فالتيار الغالب يسعى إلى نقل هذه الامتيازات (سياسية واقتصادية وثقافية) له، عن طريق صندوق الانتخابات، مستغلين حالة ارتباك عقلي ونفسي تضرب المصريين حاليًا بقوة، خاصة في الطبقات الفقيرة والمهمشة والأقل تعليمًا ووعيًا، وهي تمثل أغلبية في مصر، وتيار أقلية يريد وقف عملية النقل عن طريق المظاهرات والاعتصامات في الشوارع.

أما العيوب التاريخية فمرجعها إلى حالة التخلف التي ضربت مصر مع غزو العثمانيين لها، وامتدت قرونا طويلة تجمعت خلالها ثقافة وقيم يستحيل أن ينهض مجتمع بها أو معها، وهي مجموعة القيم التي تخلصت منها أوروبا في عصر النهضة، كالتواكل والأمية وإهدار قيمة الوقت، والفهلوة، وعدم الكفاءة، والتفكير الغيبي وسيطرة رجال الدين..

صحيح أنه أمكن الإفلات من هذه الحالة أحيانا ولفترات محدودة، كما حدث في تجربة محمد علي وعائلته، أو في تجربة جمال عبد الناصر، لكن سرعان ما ينتكس المجتمع ويعود القهقرى مشدودا بتلك القيم السائدة بين أعداد كبيرة من الشعب، إذ تظل أفكار التقدم والتنوير والمعرفة الحديثة، محصورة في شريحة صغيرة نسبيا لا تكفي لصناعة روافع قوية تشد المجتمع بأسره للأمام..

وهذا الصراع بين القديم السائد والجديد المستنير، تجسد تماماً بعد شهر واحد من ثورة 25 يناير، مع استفتاء التعديلات الدستورية، وهو الاستفتاء المعروف باسم غزوة الصناديق، وفيها قطع أصحاب التيارات الدينية السياسية الماء والهواء عن حلم الدولة الجديدة، ونقلوا الصراع ما بين الجديد الذي ما زال جنينا والقديم المتهالك الفاسد، إلى صراع شرس بين دولة دينية يحاولون بناء هيكلها ومحرابها على أنقاض تجارب من الماضي البعيد تستحيل استعادتها..

ودولة مدنية بمنطق العصر الحديث وأسسه المستمدة من التفكير العلمي المنظم، مستلهمة تجارب التقدم في الغرب والشرق، دون أن تتخلى عن ثقافتها وخصوصيتها وشخصيتها.. دولة مدنية لا تهجر الدين ولا تهمشه، لكنها تبعده عن الاستغلال والتجارة واللعب به.

وهذان العنصران الحاكمان في مسيرة المجتمع المصري، ينجبان بالضرورة عناصر أصغر تصنع مزيدا من الاستقطاب والتفتت، وهما أسهل طريق للعنف، خاصة مع ضعف الدولة، ووجود جماعة حاكمة لا تملك كوادر حقيقية، ولم تكن مستعدة للحكم ولم تهيئ نفسها له، فقط قررت في لحظة أن تنتهز فرصة الفراغ السياسي المتاح وتصل للسلطة مهما كانت التبعات.. في مواجهة تيارات مدنية مطاردة بسوء سمعة الليبرالية والعلمانية بين أوساط البسطاء من المصريين.

وضاعت الثورة المصرية وسط هذه الصراعات، لكنها لم تمت، فما زالت الأجيال الجديدة تضخ فيها حيوية جديدة، وهي أجيال مختلفة عن الذين كانوا في ميادين المدن المصرية في يناير 2011 وأفسدهم الإعلام والفضائيات، أجيال تتحرك في صمت وتعمل بعيدا عن الأضواء، ولن تتوقف!

 

Email