تشويه التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

نشهد اليوم أعتى الحملات العدائية ضد تواريخ عربية بالذات، ويتبرع العديد من المتطفلين والجاهلين والكارهين والحاقدين، لإطلاق الأحكام الجاهزة والكيدية من دون أي وعي، ومن دون أي بعد نظر أو تثبت من الأحداث والشخوص والظروف والمواقف.

وينقسم الناس في مجتمعاتنا حول تحديد الرؤية إلى التاريخ، لكونها لا تؤمن بأية قطيعة بين الحاضر والماضي، ولأنها عاشت جملة تناقضات بين ما تحمله ذاكرتها الاجتماعية أو ما تناقلته شفاهاً من جيل إلى آخر! وتنقسم الرؤية لتاريخنا في بلاد تكثر فيها الانقسامات المذهبية والطائفية، كون كل طائفة اجتماعية تستلهم شرعيتها ووجودها من تاريخ معين، أو من شخوص وأبطال معينين، فتمجد رموزها على حساب طائفة أخرى.

والأخطر في مجتمعاتنا، أن البعض من هؤلاء الجدد الذين اخترعتهم الأيام الجديدة، انتقل من الوصاية على مذهبه أو طائفته، ليغدو ولياً على أمور التاريخ.

فكما استحوذوا على الدين وجعلوه مجرد طقوس وأقانيم، ونصبوا أنفسهم وكلاء عليه، فقد جعلوا من أنفسهم أولياء أمر التاريخ، يتكلمون باسمه، ويطلقون أحكامهم عليه، من دون أي علم أو منهج أو نقد أو رؤية عقلية.. إنهم يستخدمون ذلك لتبرير استحواذهم على الحاضر ليسيّرونه على أمزجتهم، ويلغون ويهمشون ويحللون ويحرمون كما يشاؤون.. الخ.

لقد احتكرت التاريخ ثلة من الجهلاء ووعاظ السلاطين ورجال المذاهب والطوائف، ورهط من المتطفلين وأدعياء الإعلام، وبعض كتّاب السيناريوهات الذين يجهلون أبسط قواعد المنهج وفنون الكتابة وأدوات النقد.

التاريخ عندهم لم يعد تخصصات أو مناهج معرفة إنسانية واجتماعية، ونقداً ظاهراً وآخر باطناً، أو تحليل وثائق وكشف معلومات، ولم تعد مهمته ضرورية لتشكيل ذاكرة حقيقية أساسية للمجتمع، بل غدا مستلباً من هذا الطرف أو ذاك، مع طغيان الأوهام، وبثّ الأكاذيب، وتأليه الرموز، والتشويه والإساءة بغرض جذب المشاهدين والفضوليين وطالبي المتعة.

ولا أدري كيف أفسّر صمت المؤرخين المتخصصين والعلماء على كل ما يحدث وينشر، إذ لا إجابة منهم على أسئلة لامتناهية تتطلبها معرفة ونقد وفكر وعقل! ويبدو أن الساحة قد جفت مع رحيل الكبار وضمور الصغار، بل ويبدو شبح التآكل العلمي هاربا أو مغتربا أو صامتا، إزاء تفاهة الطفيليين والدخلاء والمارقين والمحرفين والمتعصبين..

الذين خربوا الثقافة المتمدنة، مع اجتياح الأفكار الجاهزة من هنا أو المعلبة منذ قرون من هناك! إن التاريخ كان ولم يزل مستلبا من فقهاء، أو جهلاء، أو رؤساء، وسلاطين، وسدنة طوائف ومذاهب أو أيديولوجيات، أو حتى من قبل تجار المتعة من مؤلفي وفناني سيناريوهات أفلام ومسلسلات الإثارة والمتعة قصيرة الأجل..

 بل ومستلبا حتى من أشباه شعراء وأدباء ومثقفين ومؤلفين وباحثين فاشلين، يدخلون أنوفهم عن قصد وسبق إصرار، لتشويه الحقائق من دون أي إسناد أو توثيق علمي!

إن توظيف التاريخ من قبل هؤلاء يأتي لمقاصد شتى وأغراض مشبوهة، فيغدو هو الأسهل كونه يخلو من شهود إثبات أو أية توثيقات، فيسمع الناس ما يقولون، أو يقرأ العالم ما يكتبون بلا دراية، أو كما يشاهدون على شاشات التلفزيون.

ومن المؤسف أن مؤرخين عرباً انحازوا لهذا الطرف أو ذاك، بينما يلوذ أكثرهم بالصمت القاتل من دون أن يدلي برأي أو نقد أو اعتراض، أو حتى إيضاح للفصل بين الحقائق والأكاذيب، وهو يسمع ويقرأ ويرى ما يحدث من أخطاء في كتابات وأفلام ومسلسلات، وما يكال من شتائم وسباب ضد رموز على المنابر والمسارح وفي الاستوديوهات وقاعات المحاضرات، وما يطلق من أحكام بليدة على مراحل وعهود، أو من يقوم من الممثلين بأداء أدوار ليسوا هم بحجمها أبدا، ولا تليق بهم أبدا.

لقد صوّر السلطان سليمان القانوني كما لو أنه كان تافها، لكنه لم يكن هكذا أبدا، بل كان إمبراطورا عظيما حتى لقبه الأوروبيون أنفسهم بـ"الزاهي" (The Magnificent).

إذا كان المؤرخون العرب الأوائل قد أنتجوا كتباً خطيرة، أو موسوعات رائعة أثارت الفكر وانتبه إليها العالم، وتابعها أغلب المثقفين والمهتمين بشغف كبير، في مختلف صنوف العلوم الإنسانية والاجتماعية، فإننا اليوم إزاء كتبة جهلة أو حملة شهادات مزيفة، أو أناس فرضوا أنفسهم على الميدان، وهم لا يفقهون إنتاج ورقة بحثية رصينة!

إن قيمة العلماء تبددت، ولم تعد للعلم قيمة في حياتنا الاجتماعية العربية. كانت الناس تعرف حدودها ولا يتدخل المرء في شؤون لا تخصه، أو يدخل أنفه في تخصصات ليست له أية معرفة فيها.. واليوم أصبح كل من هبّ ودب حامل صولجان، يتفقه في كل الشؤون ويتفلسف في كل الأمور، بل وطغى الجهلاء على العقلاء!

ولعل أخطر ما حدث في الثلاثين سنة الماضية، هو تحوّل الناس العاديين إلى سياسيين وقادة ومخططين وصناع قرار وأصحاب سلطة، ليس في المجتمع وحده، بل في الدولة ومؤسساتها. إن التحولات السياسية لا يمكنها أن تمضي في سبيلها، إن بقي الأمر في أيدي هؤلاء الذين يختزلون بضاعتهم باستلاب التاريخ، ويلوون أعناق الحقائق، ويرجعون الحياة إلى الماضي.. إنهم يعيشون في قلب هذا العصر، ولكن تفكيرهم وأذهانهم باقية في الماضي.

 

Email