ظواهر ما بعد سقوط الأنظمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أيقظ ربيع التغيير في العالم العربي، ظواهر وحركات كانت بالأمس القريب في حكم الهامشية أو النائمة، أو الحاضرة الغائبة. إحدى هذه الظواهر هي زيادة التأثر العربي بالحضارات والثقافات الأخرى.

أكثر الثقافات صاحبة التأثير الأقوى هي الثقافة الغربية، وذلك بسبب التعرض المستمر لها منذ فترة بعيدة؛ إضافةً إلى ازدياد زخمها تقنياً عالمياً. تأتي الثقافات الأخرى بأدوار أقل تأثيراً، وكل حسب قربها الجغرافي والفكري الثقافي من المكان. الثقافات الآسيوية والإفريقية تزحف على أهل منطقة الشرق الأوسط من مختلف الاتجاهات.

هنالك ظاهرة الزحف الاجتماعي الثقافي العمالي، القادم في اتجاه العالم العربي، بسبب وفرة وغزارة مصادر الطاقة في المنطقة.

هنالك ظاهرة بروز الأقليات بشكل أكثر سطوعاً، ومشاركتها الأكثر فاعليةً وحسماً في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. شاركت تلك الأقليات بفاعلية مشهود لها في التخلص من الأنظمة السابقة. جاء دورها للحصول على مكتسبات أو غنائم من "نجاح" حركات ربيع التغيير.

في المجتمعات الجديدة، بدأت تذوب أو تضمحل تلك الأفكار والنظرات السابقة تجاه الأقليات. توجهات وسياسات كانت تؤدي إلى طمس أو تهميش فئة في المجتمع، بناءً على نسبة تكوينها في المجتمع. انتفت الفكرة السابقة السائدة، من أن رأي الأغلبية دائماً على حق. نسبة كبيرة من المفكرين والمبدعين والمنتجين اللامعين، ينتمون إلى الطوائف المهمَّشة سياسياً واجتماعياً وأمنياً وإدارياً.

أبناء المجتمعات الجديدة، أكثر حريةً في التعبير عن آرائهم في المجتمع وأسلوب العيش والحياة والنظر إلى المستقبل. يظهر ذلك في كثرة وسائل الإعلام التابعة لتلك الجماعات. بالأمس القريب كانت تلك الوسائل و"الأبواق" الإعلامية، إما غائبة أو سرية أو متدنية الحضور.

حتى أن قسماً من هذه الأقليات "سابقاً"، بات يمارس منهجيةً أكثر صخباً، محاولاً اختطاف أو ابتزاز قيادات المجتمعات الجديدة. ما لم يستجب المجتمع الجديد وقيادته الجديدة لتلك المطالب، فإن تلك المجموعات لا تتردد في الاستعانة بقوى داخلية وخارجية لتحقيق مطالبها وأمانيها.

ازدادت الحركات السياسية والاجتماعية والفكرية عدداً وحجماً وتنويعاً، ونشاطاً متزايداً. تصاحب ذلك زيادة صخب الإعلام "الغوغائي"، مع نقص واضح في التركيز على العوامل الإيجابية التي تؤدي إلى توطيد النمو في المجتمع، اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً.

تميل المجتمعات الحديثة إلى الاستثمار في وسائل الكسب السهل والسريع. أهملت كثيراً أوجه ووسائل وأدوات التقدم والتوطيد الأساسي في المجتمع.

هذه تتلخص في الاهتمام بالأنشطة الزراعية والصناعية، والفكرية الإنتاجية، والتعليمية الأساسية والثقافية الأصيلة. تبعاً لذلك تزداد التبعية والاعتماد على المصادر الخارجية، بشكل يهدد الاستقلال والاكتفاء الذاتي في صميم الصميم. أصبح المال وتنمية رأس المال، الشغل الشاغل للأجيال الحالية والقادمة. تضمحل وتغيب جملة من الاهتمامات بأسس المجتمع والتركيز عليها وتطويرها.

خف ويخف تأثير الحكومات المركزية في المجتمع؛ حلت وتحل محلها التنظيمات الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية والأحزاب السياسية الملونة. يجري هذا مع التوسع في توطيد سياسة الخصخصة، وزيادة نفوذ الشركات وأصحاب الرساميل. ذلك ما يحمل في ثناياه عوامل إيجابية وأخرى سلبية. الإيجابية منها تخص زيادة حرية الفرد، نوعاً ما، والجماعات الصغيرة والكبيرة. السلبية منها تتلخص في تفكيك أواصر وأسس تقارب الأفراد والجماعات، مما قد يؤثر على وحدة وتكامل تلك المجتمعات.

تضمحل الأنشطة الاقتصادية الداخلية التكاملية، مما يؤدي إلى تفسّخ وتفتت وتشرذم تلك المجتمعات، وخسارة تأثيرها الداخلي والخارجي. تضعف إلى درجة كبيرة الجبهة الداخلية، أمام القوى المتربصة بها في الداخل والخارج. ما ينتج من سلبيات بسبب التغيير، ناجم عن عدم وجود قيادات ثورية "عامة" واعية، مقبولة واسعاً لدى عموم فئات الشعب. قيادات تتابع المشهد المتغير عن كثب، وتحاول لعب دور أساسي وإيجابي لتوجيهه في اتجاه الأحسن، ما أمكنها ذلك.

تُركت الأمور تجري على هواها، ولجأ الجميع إلى الصندوق "السحري" للانتخابات الحرة. أفرزت صناديق الاقتراع وجوهاً جديدةً وأخرى تقليديةً، متمازجةً؛ وضعت المجتمعات الجديدة آمالها عليها، من أجل قيادتها نحو الأهداف والآمال المنشودة.

 

Email