دروس مفيدة من همنغواي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمكن لتوقع الأحداث أن يشكل لعبة خطيرة، وذلك لأن بعض الناس يتوقعون ما يتمنونه ببساطة، مما يسمح لتحيزاتهم الشخصية بإخفاء الواقع، ونحن نرى ذلك مرارا وتكرارا خلال موسم الانتخابات. وفي الواقع، فإن السبيل لإطلاق تنبؤات دقيقة هو الموضوعية المطلقة؛ مراقبة الأنماط بشكل مستقل، والتوصل إلى الاستنتاجات وتطبيقها على التطورات الجديدة من أجل التنبؤ بمسارها المحتمل.

والمشكلة الكبرى، في هذه الأيام، هي أن ذلك يتطلب استيعاب كميات كبيرة من المعلومات، عبر مشهد واسع يغطي أحيانا نقاطا متباينة في الزمان والمكان. ولا يتم تسليم هذه المعلومات في حزمة صغيرة ملائمة كقطعة أثاث من ماركة مشهورة، جاهزة لأن يقوم دماغك بتجميعها. وكما هي الحال بالنسبة لكل شيء آخر، فإننا نتوقع حلا سريعا، ولكن صياغة التوقعات تتطلب وقتا. وغالبا ما تكون قطعة الأحجية تلك التي تتعثر بها دائما على نحو غير متوقع، هي القطعة التي تضع الأحجية بأكملها في حيز التركيز.

وخلال عطلة عيد الميلاد، تميل الحياة إلى الجمود، مما يدفعنا، نحن مدمني العمل، إلى ملء الثغرات التي يخلفها الآخرون بشيء يشبه الراحة. وبالنسبة للبعض منا، فإن هذه "الاستراحة" تمثل فرصة للانغماس في المعلومات في غياب العراقيل اليومية المعتادة. وفيما كان الآخرون يحشون بطونهم بالديك الرومي، كنت أحشو ذهني بالأعمدة التي كتبها إرنست همنغواي في صحيفة "تورونتو ستار" منذ 90 عاما، ولم أكن أعلم أنها ستوفر معلومات مفيدة للتنبؤ بعام 2013.

ورغم أن همنغواي توفي قبل ما يزيد على نصف قرن، فإنني غالبا ما أصادفه. فنحن الاثنان بدأنا مشوارنا ككاتبي عمود في صحف في تورونتو، قبل أن ننتقل في نهاية المطاف إلى باريس. ثم، خلال رحلتي من باريس إلى تورونتو لعيد الميلاد، صادفته مجددا على شاشة الطائرة، يقوم بدوره كليف أوين إلى جانب نيكول كيدمان، التي قامت بدور مارثا غيلهورن ورشحت لجائرة "غولدن غلوب" عن ذلك الدور، في فيلم "همنغواي وغيلهورن"، الذي تناول قصة علاقته وزواجه خلال الحرب بتلك المراسلة الحربية الشهيرة.

وكغيره من الصحافيين المتميزين، فقد كان همنغواي يبحث باستمرار عن حروب يقحم نفسه فيها. وتلك السمة بالذات، التي أحسن ذلك الفيلم تصويرها، هي ما جذبني دائما ودفعني لقضاء بعض من وقت عطلتي في البحث في أرشيفات صحيفة "تورونتو ستار"، لمعرفة ما وقع فيه من مشكلات أخرى.. ولم أحتج إلى البحث بعيدا.

ففي عام 1920، كتب همنغواي في عمود بعنوان "الغرب المتوحش موجود الآن في شيكاغو"، عن العدد القياسي من الجرائم الذي شهدته المدينة، مشيرا إلى أن "وقوع مئة وخمسين جريمة قتل خلال عشرة شهور، يعني جريمة قتل واحدة كل ثمانٍ وأربعين ساعة"، كما كتب عن قائمة قتل نجمت عن منافسة سياسية بلدية في الحي التاسع عشر. وقد سمعنا مؤخرا أن معدل القتل في شيكاغو "ارتفع" في عام 2012، نتيجة لعنف العصابات. ويبدو أن الاختلاف الوحيد الذي نشأ على مدى 90 عاما، هو أن عرقية بعض أفراد العصابات تغيرت.

ماذا عن التنبؤ؟ بعد مرور 100 عام أخرى، سوف يواصل معدل جرائم القتل في شيكاغو "ارتفاعه" على الأرجح، بغض النظر عن التفاصيل الأساسية.

وحين انتقل همنغواي إلى باريس عام 1922، لاحظ أن "كنديا يجني ألف دولار سنويا، يستطيع العيش بشكل مريح وممتع في باريس". وكتب همنغواي يقول: "إن السياح الذين ينزلون في الفنادق الكبيرة هم وراء التقارير التي تفيد بأن الإقامة في باريس مكلفة جدا، إذ يتقاضى مسؤولو الفنادق الكبيرة كل ما يرون أن السياح قادرون على دفعه. ولكن هناك عدة مئات من الفنادق الصغيرة في جميع أرجاء باريس، تتيح لأي أميركي أو كندي أن يقيم إقامة مريحة، ويتناول الطعام في مطاعم جذابة، ويتسلى، لقاء ما لا يزيد على دولارين ونصف الدولار إلى ثلاثة دولارات في اليوم الواحد".

وبصفتي مقيمة في باريس، فإن تلك الملاحظة بالضبط هي ما أحاول نقله للسياح الذين يجدون صعوبة في تصديقي، لأنهم يترددون على مطاعم تتقاضى 50 يورو لقاء شطيرة "همبرغر" واحدة، في الوقت الذي أستطيع أنا شراء الشطيرة نفسها من الشارع مقابل ثلاثة يوروهات.

ما هي الرسالة التي أود إيصالها؟ إن الأسس التي تقوم عليها باريس بشكل خاص، وفرنسا بشكل عام، بما في ذلك خطط نهب السياح، لم تتغير كثيرا في غضون ما يقرب من 100 عام، وذلك على الرغم من كونها مركزا للحرب العالمية الثانية، ونجاتها من الاحتلال النازي والمحرقة.

وهذا هو السبب في أن النظام مضغ الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، وبصقه قبل أن يتمكن من حل مشكلات البلاد، وهو السبب في أنه كان من المحتم أن يرفض المجلس الدستوري الفرنسي، القائم منذ عام 1958، اقتراح الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند بفرض ضرائب على أصحاب الملايين الفرنسيين بمعدل 75%.

إن سهولة الانجراف في دورة الأخبار اليومية، لا تعني بالضرورة أن العالم يتغير بصورة أسرع، ولا ينبغي لتوقعاتنا للعام الجديد أن تعكس أي تحول سريع من ذلك القبيل.. شكرا لك يا همنغواي، لأنك تركت لنا دليلا ملموسا خالدا على ذلك.

 

Email