دروس الوحدة والانفصال

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن أنسَ فلا أنسى ذلك اليوم الذي قال فيه لنا الأستاذ أحمد، إن مظاهرة ستخرج من مدرستنا والمدارس الأخرى للتنديد بانفصال سوريا عن «الجمهورية العربية المتحدة»، وإن الرئيس عبد الناصر سيلقي خطاباً هذه الليلة في الراديو يقصد صوت العرب بمناسبة هذا الحدث الأليم. بالطبع، خاطبنا الأستاذ أحمد الفلسطيني الذي علقت كلماته في ذاكرتي، والذي للأسف تخونني الذاكرة لمعرفة بقية اسمه، خاطبنا على قدر عقولنا ومداركنا الصغيرة، ونحن في الصف الثاني الابتدائي، في أوائل عام 1961. سرت في المظاهرة لمسافة، لكن قدمي الصغيرتين لم تستطيعا حملي.

الانقطاع الجغرافي الذي سببه وجود الكيان الصهيوني بين القطرين العربيين، هو الذي ـ من وجهة نظري - كان وراء فشل تلك المحاولة الرائدة، لكنه لم يكن الشرط الكافي. فالعراق وسوريا بلدان متجاوران، حكمهما حزب شعاره الأول الوحدة، ثم تأتي الحرية فالاشتراكية، ومع ذلك فشل جناحا الحزب الذي انقسم في ستينيات القرن الماضي، في إنجاز الوحدة. وظني أن اختلاف المصالح كان هو السبب، فصدام حسين الذي كان قد تربع على الحكم وتحت قدميه كل ثروات العراق النفطية، لم يكن يريد الاتحاد لتكون سوريا عالة عليه، ناهيك عن منافسة حافظ الأسد له في الزعامة.

والتجاور المكاني مع وحدة عوامل اللغة والدين والتاريخ المشترك، لم تؤد أيضاً إلى الوحدة، كما هو حال دول المغرب العربي التي لم تفلح في تفعيل إعلان وحدتها ووضعها موضع التنفيذ، ولو بالحد الأدنى، كحرية انتقال الأفراد والبضائع ورؤوس الأموال وغيرها. وقد حصل ذلك أيام القذافي الذي كان «مهووساً» بفكرة الوحدة، حتى إنه دعا إلى الوحدة الإفريقية. والوضع على ذات الحال بعد أن مرت المنطقة بمخاض الربيع العربي، مع ما أطلقه من آمال وتطلعات للشعب العربي.

وهنا يثور سؤال حول العقيدة السياسية ودورها في تحقيق الوحدة. فالوحدة كانت وما زالت شعاراً للحركة القومية والبعثية، وهي أيضاً شعار للجماعات الإسلامية، لكن على أرض الواقع وحسب المعطيات التاريخية، فإن هذه الشعارات لم تتجسد كحقائق تبين صدق من حملوها، أو واقعية تلك الشعارات، بناء على العوامل المختلفة التي تسود المنطقة. ففشل الوحدة المصرية السورية، ثم العراقية السورية، ثم مشكلات اليمن الحالية ودعوة «الحراك الجنوبي»، وهو أساساً من بقايا القوميين العرب البعثيين وغيرهم، يدل على أن الإيمان بفكرة الوحدة لا يؤدي بالضرورة إلى تحقيقها في حال الفوز بالسلطة.

وتعالوا بنا نتأمل حال مصر والسودان حالياً، فكلتا الدولتين كانتا كياناً واحداً، إلى أن قرر السودانيون الانفصال عن مصر في عام 1956. ولم نسمع منذئذ على حد علمي أي دعوة تنادي بوحدة أبناء وادي النيل، الذين تربطهم الجغرافيا واللغة والتاريخ، مع ملاحظة أن ثمة انسجاماً فكرياً بين السلطتين القائمتين في البلدين حالياً، أساسه مبادئ حزب الإخوان المسلمين، التي تدعو إلى خلق أمة إسلامية واحدة.

ولقد بينا أن المعطيات التاريخية تؤيد أن وحدة العقيدة والفكر ليستا سببين كافيين للوحدة، فقد انفصلت بنغلادش عن باكستان، وانسلخت جمهوريات الاتحاد السوفيتي عن بعضها، رغم أن الأحزاب الشيوعية كانت لا تزال في السلطة في أكثر من واحدة. بل إن الشعور القومي والرغبة في الانفصال تجسدت قوية في بعض دول حلف وارسو في عز قوته، من قبيل ثورة هنغاريا (المجر) 1956، وتشيكوسلوفاكيا 1968، وإضرابات عمال حوض السفن في غدانسك بقيادة «حركة تضامن» في بولندا منذ أوائل الثمانينات. وقد تمزقت تشكوسلوفاكيا ذاتها في ما بعد لدولتين، ثم لتتحدا ثانية في إطار الاتحاد الأوروبي.

والتجاور الجغرافي المكاني مع اختلاف القومية واللغة والدين، أديا إلى نتيجتين مختلفتين: دولة اتحادية مزدهرة وراسخة في سويسرا، وأخرى كانت تسمى بالجمهورية الاتحادية اليوغسلافية الاشتراكية التي نشأت بقيادة تيتو بعد الحرب العالمية الثانية، لتتمزق إرباً على أساس قومي في أوائل التسعينيات الماضية، مع حرب ضروس راح ضحيتها الآلاف.

ولعل التجربة المضيئة في الوحدة في وطننا العربي، هي تلك المتحققة على أرض دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تزداد رسوخاً كل يوم.

 

Email