ما هو حال الرئيس الأميركي باراك أوباما، ومن خلفه أميركا، عشية تنصيبه رئيسا لولاية ثانية؟
قطعاً إنه مختلف جملة وتفصيلاً عن الحال غداة تنصيبه في ولايته الأولى، حيث كان "الأمل" هو المحور الرئيسي الذي تطلعت إليه أفئدة وعقول الأميركيين، غير أن أميركا اليوم تبدو مأزومة شكلاً وموضوعاً، وما من آمال عريضة معلقة في رقبة أوباما الثاني لانتشالها من أزماتها.
ما هي علائم ودلالات أميركا المأزومة في زمن أوباما الثاني؟
القراءة النقدية والتحليلية للواقع الأميركي اليوم، أكثر من أن يحاط بها في قراءة متواضعة، لكن على سبيل المثال لا الحصر، خذ إليك الهوة المالية التي هي عادة ما تكون المدخل لتهاوي الإمبراطوريات منذ زمن الرومانية وصولاً إلى العثمانية. قبل بضعة أيام كان أوباما يحذر من خطر أزمة اقتصادية ومالية، في حال رفض الجمهوريين في الكونغرس رفع سقف الدين، ما يعني أن الاقتصاد الأميركي على حافة الهاوية، رغم الاتفاق الذي أبرم في نهاية العالم.
والخوف من الانهيار المالي الأميركي، مرجعه سببان؛ الأول يتمثل في أن الاعتماد على تفاصيل الاتفاق المشار إليه، يظهر وجود قدر كبير جداً من الضغط والتشديد المالي في سنة 2013.
ويتمثل السبب الثاني، الذي يتسم بقدر أكبر من الأهمية، بكون تخصيصات الإنفاق هي التحدي الأكبر للولايات المتحدة على الأجل المالي الطويل. وأميركا ليست مأزومة مالياً فقط، بل ربما هناك أزمة أخطر على الصعيد الديمغرافي، يمكن أن تقود خلال عقد أو عقدين على أكثر تقدير، إلى تغيير وجهها وتوجهاتها.
منذ نشأة أميركا وهناك أوليغارشية بيضاء ثرية، تحكم وتتحكم في المشهد السياسي، غير أن هذا الواقع يتغير الآن نتيجة لتغير التركيبة السكانية لأميركا، وتزايد تأثير الأميركيين غير البيض، الذين باتوا يشكلون نسبة مئوية متزايدة باطراد، وقد لعبت هذه النسبة دوراً فاعلاً في انتخاب ثم إعادة انتخاب أوباما، لا سيما وأنها رافضة لتسيد وتسلط النخبة البيضاء المعيقة للتغيير. وفي كل الأحوال، يعني ذلك عدم ارتياح الطبقات السكانية الأميركية بعضها إلى بعض.
يتسلم أوباما في تنصيبه الجديد عصا القيادة الأميركية، وهو وبلاده من خلفه في حاجة ماسة إلى التعاطي مع حلف الناتو، بعد أن بدا وكأن واشنطن في غير حاجة إليه بعد دحرها للاتحاد السوفييتي، فالقارة العجوز التي كانت تنظر إليها إدارة جورج بوش الابن بشكل دوني، باتت في الأعوام الأخيرة حجر زاوية عند إدارة أوباما، على صعيد حماية الأمن القومي الأميركي، لا سيما مصالحه في الشرق الأوسط بعد حركات الصحوة ذات المسحة الإسلامية، ما يعني أن السياسات الخارجية الأميركية لم تعد حرة مطلقة، بل عليها الالتزام بمصالح الآخرين من الأوروبيين.
يفشل مشروع أميركا العلني لعسكرة العالم بعد إخفاقها في العراق وأفغانستان، ومع ذلك تعمد إلى الحروب السرية والخفية والهجمات بطائرات دون طيار، ما يعني أن طرح الهيمنة لا يزال هو المسيطر على فكر قادتها، وليس ثمة شك في أن وهم القوة الكلية الفائقة سيسرع من الأفول الأميركي العسكري أولاً، والاضمحلال السياسي من بعد ذلك، بدل أن يطيل عمر الـ"باكس أميركانا".
ماذا عن أميركا المأزومة في الداخل إنسانياً؟ يبقى الإرهاب الأميركي الداخلي مهدداً خطيراً للاتحاد الأميركي عينه، وهو ليس مجرد إرهاب أفراد، بل عمل منظم ومؤسساتي لجماعات تمتلك قدراً كبيراً من المعرفة والعلم ثم الانتشار والتسلح، وهو إرهاب مؤدلج يرى في الحكومة الحالية كياناً فاسداً، وتمتد دعواته إلى انفصال بعض الولايات.
هل الحلم الأميركي في المساواة والإخاء والعدالة يتبخر بدوره؟ تتجلى العنصرية داخل أميركا بصورة مفزعة، الأمر الذي دعا الأمم المتحدة لأن تؤكد في أكثر من تقرير رسمي لها، ليس وجود الظاهرة فقط، بل اتهام الإدارات الأميركية المتعاقبة بعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لمكافحة التمييز العنصري.
أما التمييز على أصول أو جذور دينية، فخذ مسلمي أميركا كمقياس وانظر ماذا ترى! أتقترب أميركا من التفكك الطبقي؟ مخاوف التفكك الطبقي في واقع الحال، استدعت من صحيفة النيويورك تايمز نشر سلسلة من سبع حلقات، تساءلت فيها عن الحلم الأميركي الذي أوحت به النخبة الحاكمة، وهل هو حقيقة معاشة أم مخدر لتخدير الجماهير لحين بيع الوهم والسراب الذي لا يزال الأميركيون يركضون وراءه؟
يتسلم باراك أوباما ولايته الثانية في ظل تعاظم دور جماعات الضغط، السياسية والاقتصادية والعسكرية، وبأجنداتها العابرة للقوميات، وجميعها تجعل عملية اتخاذ القرار السياسي الأميركي رهن مصالح شخصية أو مؤسساتية ضيقة، تتعارض مع الصالح العالم لجموع الجماهير الأميركية المغيبة عما يجري من خلفها. أما المحصلة الختامية لهذا الاتجاه، فهي ضياع ملامح وروح الديمقراطية الأميركية المنشودة، واجتثاث الأسس التي عمل الآباء المؤسسون على إرسائها وتنميط قواعد بناء أميركا عليها.
هل فشل أوباما خلال ولايته الأولى في إعادة الأمل إلى أميركا المأزومة؟
قطعاً ذلك كذلك، وإن كان الإرث السيئ لبوش الابن قد ترك تأثيراً واضحاً في الحساب الختامي الأوبامي، إلا أن كاريزمية أوباما الوهمية ذاتها انكشفت وراء غطاء الازدواجية الأميركية المعهودة، وعليه غاب الحلم في أن يكون أوباما رئيساً استثنائياً، ليضحى بدوره رئيساً مأزوما، والمأزوم لا يحل أزمة، وخاصة إذا وجد في سياقات تاريخية طبيعية لإمبراطورية كانت ذات مرة مرشحة لقيادة العالم، أما الآن فلا.