المعارضة العميلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يوحد النظـام الاستبدادي بين الحاكم والدولة، ويحـول الدولة إلى ملكية للحاكم، تتماهى معه ومع مصالحه، ومع مرور الوقت وممارسة الحكم والسلطة يعتبرها هذا الحاكم بكل مؤسساتها ومكـوناتها ملكية خاصة، ثم تمتد ملكيته هذه لتشمل الشعب كلـه، ولا يعـود يـرى أي احتمال لوجود دولة منفصلة عنه.

أو شعب لا يـرى رأيه، بل يرى الشعب مجرد رعية فقط، وفي ضوء ذلك فإن أفـكاره، تصـبح حسـب رأيـه ذات صحة مطلقة لا يتدناها الشك، فهـو الأكـثر فهماً وثقافة ومعرفـة ومنطقاً ومحاكمة في البلاد كلها، ومن يعارض أفكاره أو يتبرم منها أو ينتقدها إنما يعارض الدولـة والوطـن والشعب، فالمستبد يصر على أن الدولة هي دولته هو وليسـت دولة الشعب ولا تصلح بدونه ولا معنى لها أصلاً، وبالتالي فله الحق بأن يوجهها حيثما يريد، وأن يستولي على ثرواتها، وأن يمنـع ويمنح .

كما يشاء، ولا يحق لأحـد أن يعارض أعماله أو سلوكه أو خططه أو استراتيجيته مطلقة الصحة دائماً، ومن يفعل فهو عدو للدولة برمتها، وخائن لقيمها، قبل أن يكون معارضاً للحاكم، وعليه لا يتصور الحاكم المستبد وجود معارضين له ولسياسته دون أن يكونوا أعداء للدولة وخونة ومتعاملين مع الخارج.

وينبغي التعامل معهم على أنهم كذلك، ولهذا يعطي لنفسه الحق بإصدار القوانين والتشريعات، ووضع الخطط وتطبيق الاستراتيجيات، وإعلان الحرب والسلم، بدون استشارة الشعب أو سؤاله عن رأيه، ومن يعترض أو يحتج فلا شك أنه منحرف أضاع طريقه، أليس الحاكم هو الذي يعرف والذي لا يخطئ ومن ينتقده ويعارضه إنما ينتقد الحق ومصالح الدولة والبلاد؟.

لقد اتهم هتلر من انتقدوا سياسته العنصرية والعدوانية التي أدت في النهاية إلى اشتعال الحرب العالمية الثانية وتدمير أوروبا بما فيها ألمانيا نفسها. وإلى مقتل خمسين مليون نسمة اتهمهم بالخيانة العظمى والعمالة للأجنبي، ومثله فعل موسوليني في إيطاليا. وسجن ستالين وأعدم مئات الآلاف ممن عارضوا سياسته باعتبارهم عملاء للخارج، ومنهم شيوعيون مناضلون.

ومن أعضاء اللجنة المركزية للحزب، وقلده زعماء في دول المنظومة الاشتراكية الأخرى، حيث اتهموا بدورهم معارضيهم بالخيانة العظمى، وملأوا بهم المعتقلات. وقد شهدنا مثل هذه الاتهامات للمعارضة من قبل بعض الأنظمة العربية الشمولية منذ الاستقلال حتى الآن، حتى طاول الاتهام بالخيانة معظم المعارضين، وبعضهم اعتقل أو أعدم بسبب هذه التهمة الملفقة.

وفي العقد الأخير، بل وفي السنوات الأخيرة انتشرت مجدداً هذه الظاهرة انتشاراً واسعاً وغير مسؤول في دول إقليمية ودول عربية، ففـي إيران اتهم النظـام السياسي المعارضين له بالخـيانة، وألقاهـم في السجون والمعتقلات ومازالوا، ومنذ اليوم الأول لانتفاضة السوريين ضد الاستبداد والقمع والفساد قبل عامين، اتهمهم النظام بالعمالة للخارج، حتى أن الرئيس بشار الأسد حدد أجـرة المتظاهـر الواحد ضـد النظـام بخمسمائة ليرة سورية أي عشـرة دولارات، يتقاضاها من دول معادية. وفي العراق ما أن تظاهر الشعب العراقي في الأيام الأخيرة مطالباً ببعض الحقوق، حتى تلقى التهمة الجاهزة بالعمالة للدول الأخرى.

وقال رئيس الوزراء العراقي أن المتظاهر يتلقى ألف دولار ليشارك في المظاهرات. ولم يكلف نفسه دراسة مطالب المتظاهرين، والبحث عن حلول لها، أو التجاوب معها على الأقل، بدلاً عن هذه الهرطقة ، ولم يخطر بباله أن سياسته ليست صحيحة بالمطلق دائماً. وأن خطأها ممكن ونقدها حق لكل عراقي، وليس عمالة للأجنبي أو معاداة للدولة العراقية.

وفي السودان، اتهم الرئيس السوداني في الشهر الماضي قادة الأحزاب والتيارات السياسة المعارضة أيضاً بالعمالة للخارج، وبتنفيذ أوامر هذا الخارج، لأنها عقدت مؤتمراً علنياً لبحث شؤون السودان ونقد النظام. ولأن قادة المعارضة لم يخضعوا لتعليماته، وبدورها اتهمت السلطة المصرية الشهر الماضي قادة جبهة الإنقاذ المعارضة بالتهم نفسها، أي التعامل مع الأجنبي وتنفيذ مطالبه، وقُدمت دعوى قضائية ضدهم، وكل ذلك لأن قادة الجبهة عارضوا سياسة الحكومة.

وكان لهم رأي مختلف بالدستور الجديد وقانون الانتخاب، وبالإجراءات السياسية التي تطبق في مصر، ونحن نعلم أن هؤلاء القادة هم فعلاً من قادة الرأي العام المصري، ولهم تاريخهم العلمي والسياسي والنضالي. فإن كانوا عملاء للخارج فمن هو غير العميل إذن؟

يبـدو أن جوهر موقف الزعماء وأنظمتهم من المعارضة ليس استسهالاً للاتهام فقط على خطورته، وإنما هو تأكيد بأن هؤلاء الزعماء لم يسمعوا بمعايير الدولة الحديثة وعلى رأسها الحرية والديمقراطية، ولا يؤمنون بالرأي الآخر وتداول السلطة، ويرون أن رأيهم وحده هو كلي الصحة، وأن من يخالفه إنما يخالف قوانين الطبيعة وأسس الدولة، ومصالح البلاد، وأنهم هم، أي الحكام والدولة شيء واحد متحد، وعليه فمن ينتقدهم إنما ينتقد الدولة بالضرورة وبداهة، ومن يطالب بتداول السلطة إنما هو عميل مخرب للدولة والسلطة.

وكأنه يطالب بتغيير الانتماء للدولة، ولم يدخل في وعيهم قط أن الحكومة ليست هي الدولة، وأن السلطة لا تملك الحق بالهيمنة على الدولة ولا حتى على الحكومة، وأن الحاكم لا يملك الشعب والحكومة والسلطة والدولة ومؤسساتها. وهو لا يتصور إمكانية أن يحكم أحد غيره.

 

Email