ثمة من لا يضع الدور المفترض للأديان على أرض البديهيات؛ إما لسبب يدعو إليه منطق البحث العلمي، فيرى إلى الأديان بوصفها ظاهرة بشرية سارية في الزمن، وإما بداعي التشكيك بأن الدين هو كالأيديولوجيا: منظومة من الأفكار والكلمات والمراسم والسلوكيات، تأخذ بها الشعوب لتعرب من خلالها عن هوياتها وتطلعاتها وحضورها في الجغرافيا والتاريخ.
فالأديان بحسب الرؤية الابستيمولوجية، قيمة وجودية لحركة الإنسان في العالم.
لكنها على ما بيّنت رسالات الأديان، هي خطة السماء الهادية إلى صراط الحق، ومنها تسري منظومات القيم في الاجتماع البشري سرياناً لا يعرف التوقف. وبهذا الاعتبار ظهرت الأديان بمعتقدات تأسيسية تعيد رسم الوجود البشري على نشأة العناوين الكلية لرسالات الوحي.. كالتوحيد بدل الشرك، والعدل بدل الظلم، والإيمان بدل الإلحاد، والهدى مقابل الضلال، والصراط المستقيم بدل الكفر.. والخير والسلام العام مقابل الحروب والفساد في الأرض.
ومهما يكن من دلالة تقريرية للكلام على دور الدين في السلم العالمي، فإن من مزايا هذا الكلام أنه يضمر التساؤل عما يمكن أن يتوقعه الإنسان المعاصر من الدين في هذا المضمار، وكذلك السؤال عن طبيعة المسائل والقضايا التي ينبغي أن نستفهم الدين في شأنها.. ثم عن الداعي إلى ما يجعلنا نعرض على الدين قضية مهمة وخطيرة واستثنائية كقضية السلام العالمي؟
قد يكون الدين بما له من تعلَّق بحياة ومصير الإنسانية وقضاياها الوجودية والغيبية، هو المرجع الذي يقدم إجابات عن روح هذه القضايا ومعانيها. ومع أن غاية الدين هداية الإنسان، إلا أن هذا الأخير محتاج في مسيرة هدايته إلى معارف عن نفسه وعن الكون.
ولذا فإن أهم ما فعله الدين في مجال الرؤية الكونية، أنه فتح للإنسان نافذة يطل منها على عالم الغيب، لا سيما حين حدثّه عن خلق العالم، وغاية الخلق، وخصائص الموجودات، وعلاقة عالم المادة بعالم ما وراء المادة..
أما في حقل التدبير السياسي، حيث السلام في حياة الإنسان هو الأطروحة الأهم في المنظومة الدينية، فإننا نجد طائفة من الأركان الكبرى تحيط بمعنى العالم وتحفظه من الفساد، منها أولاً؛ ركن العدل، وهو الركن الأهم في الإسلام، ومنها ثانياً؛ ركن مكافحة الظلم وهو ملازم لركن العدل. ومنها ثالثاً؛ ركن مقارعة الاستبداد والاستعمار ونصرة الضعفاء. ومنها رابعاً؛ ركن مبدأ التعاون الاجتماعي والوفاء بالعهود، وتأليف القلوب، وسوى ذلك من الأركان الفرعية.
هذه الأركان تؤلف على الجملة إطاراً مشتركاً لسائر الأديان، ولا سيما منها أديان الوحي. وتبعاً لهذا الاشتراك الذي هو في جوهره معنوي وأخلاقي وإيماني، يتشكّل الأساس الذي قد يفضي إلى بلورة وتأصيل استراتيجية معرفية لأطروحة السلام العالمي.
على عكس ما يظن كثيرون من أن تظهير مثل هذه الاستراتيجية يفترض في من وقعت عليهم هذه المهمة، أن يغادروا تحيزَّهم لهويتهم الدينية. فالتحيَّز بمعنى الولاء الحر لدين معين، يحمل في ذاته منفسحات إيجابية نحو الوصل الخلاق مع ضفاف الولاء للأديان الأخرى.
فإذا ما حُملت الولاءات من جانب أهل الأديان على محمل الرؤية الآفاقية، أي لو امتلك هؤلاء القدرة على اجتياز الإطار المغلق لتحيُّزهم، لاستطاعوا العبور إلى آفاق أخرى متعددة الأبعاد في عالم الإنسان.
هنالك إذاً، فضاء واحد للأديان يتعلق بأصل رسالاتها الإيمانية والقيمية. يبقى التساؤل قائماً ومحدداً في كيفية تسييل هذا الفضاء، ضمن حراك الإنسانية المعاصرة. إن مثل هذا التساؤل يوجب التمييز بين دائرتين، حيث يتوقف على مقاربتهما تحصيل الجواب عن الدور الذي يؤديه الدين في حل المعضلات الكبرى للعالم الحديث..
الأولى: دائرة الدين، بما هو نظام تعبُّدي وأخلاقي للفرد والجماعة. والثانية: دائرة الدين، بما هو منظومة تاريخية يُخضعها الناسُ لشروط حياتهم، ويوَّظفونها في ميادين السياسة والاجتماع عند احتدام المصالح...
ولما كانت الدائرة الأولى ثابتة وأصيلة لأن مصدرها الغيب، فالدائرة الثانية هي الميدان الأشد تعقيداً، لكونها محمولة على التغُّير والتحول الدائمين تبعاً لشروط الاجتماع البشري.. فحين يُستأنف السجالُ على نشأة العنف، لا يعود ثمة متَّسع للدفع الرحماني نحو الخير العام.
وفي عالم يكتظ اليوم بما لا حصر له من عوامل النزاع، يفيض التساؤل عما يمكن أن يصير إليه معنى التواصل وجدواه.. لكن التساؤل عن حظوظ قيام مثل هذه الأممية التواصلية، يبقى حاضراً وسط عالم يكتظ بحروبه واحتداماته ومشكلاته الاقتصادية والأيكولوجية والحيوية والاستراتجية...
الذين عاينوا تحولات العالم الجديد، يؤثرون الأخذ بالحوار كمدخل لاستواء التواصل. فلقد بدا لهؤلاء وكأن القرن الحادي والعشرين الذي وُصف بأنه قرن التوحيد العالمي، هو الأكثر وجوباً للحوار والتواصل مما كانت عليه حال القرن المنصرم..
لعل الانطلاق من هذا المبدأ، أي مبدأ التحاور، سوف ينجز أكثر أطوار المسافة المؤدية إلى الصيغة الفضلى للاتفاق المأمول. وبالتالي فمن البداهة ألاَّ يكون الحوار حقيقياً وسوياً في حال الغلبة وعدم التكافؤ، وإلاَّ صارت كل صيغة تنتجها مجالات التحاور مجرد عملية استلاب، أو هي أدنى إلى فعل أمرٍ يلقيه الغالب على المغلوب، ما يؤدي إلى خلل في نظام التواصل، ثم إلى توليد رحلة مفتوحة على الأزمات ودورات العنف.
لكن في أي بعد معرفي يمكن لحوار الأديان حول السلام العالمي أن يكون؟
إذا كانت الغاية من أي حوار هي إنجاز اتفاق حول مشتركات، فقد يكون الحوار نفسه هو مادة الخلاف بين المتحاورين. لكن ثمة منظورا آخر للقضية يمكن أن يُخرجها من دائرة الإشكال؛ إنه المنظور الذي يُرى من خلاله إلى الحوار بوصفه عملية إيمانية وأخلاقية ومعرفية بامتياز.
في هذا الميدان، لا مناص من أن يكون مبدأ التعرف هو المنطقة الوسطى التي تنأى، عن الانحكام بالجاذبيات السياسية وشروطها في العلاقات بين الدول والمجتمعات. ما يسوّغ مثل هذا المقترح، هو أن دوراً للأديان الكبرى في حفر الطريق نحو سلام عالمي مديد، هو الذي يستلزم مثل هذه المسافة التي تمكن المشتغلين فيها من وضع منظومات معرفية وأخلاقية وعملية، لصياغة سلام عالمي يقوم على نصاب الوعي والعدل والتراحم.